خلافًا لما توقّعه كثيرون، جاءت الإطلالة الثانية للأمين العام لـ”حزب الله” السيد حسن نصر الله، في مناسبة “يوم الشهيد” الذي يحيه الحزب بصورة سنويّة، لكنّه اتخذ هذا العام رمزيّة مضاعَفة على وقع الأحداث الأخيرة منذ عملية “طوفان الأقصى”، أهدأ من إطلالته الأولى، من دون أن تحمل بين طيّاتها أيّ خروج على “قواعد الاشتباك” الجديدة، التي ثبّتها في كلمته الأولى، بعدما حدّد الميدان خطوطها العريضة، من بوابة الجنوب.
Advertisement
لعلّ “الرسالة” التي أراد الأمين العام لـ”حزب الله” إيصالها لكلّ المهتمّين، تُختَصَر بهاتين الكلمتين: “الكلمة للميدان”، معادلة شرحها السيد نصر الله بوضوح: “في هذه المعركة، لست أنا من أعلن عن الخطوة ثمّ يذهب الإخوة ليقوموا بهذه الخطوة. سياستنا في المعركة الحالية الميدان هو الذي يفعل، الميدان هو الذي يتكلّم، نأتي نحن بعد ذلك لنُعبّر عن فعل الميدان، لنشرح فعل الميدان، ولذلك يجب أن تبقى العيون على الميدان وليس على الكلمات التي تصدر منّا”.
لكن، أبعد من هذه الرسالة، لم تحمل الإطلالة الثانية للسيد نصر الله مفاجآت غير محسوبة، حتى في السياسة، حيث كان التركيز مرّة أخرى على اعتبار الولايات المتحدة “شريكة” في العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة، والدعوات لضرورة تحميلها مسؤولية وقف الحرب، لوقف انعكاساتها عليها، فكيف تُفهَم هذه المقاربة “الهادئة” إلى حدّ بعيد، وربما “العقلانية” وفق توصيف البعض، وهل من “كلمة سرّ” كامنة خلفها بشكل أو بآخر؟!
ما خلف الهدوء
يقول العارفون إنّ “الهدوء” الذي يحرص “حزب الله” على تصويره في مقاربته للتطورات المتسارعة، من غزة إلى جنوب لبنان، وخصوصًا في كلام أمينه العام السيد حسن نصر الله، هو بحدّ ذاته “تكتيك” إعلامي وسياسي في سياق “الحرب النفسية” التي يخوضها مع العدوّ، وهو جزء من المواجهة الشاملة التي بدأت منذ الثامن من تشرين الأول الماضي، بأشكال مختلفة ومتعدّدة ومتنوّعة، والأهمّ، متغيّرة بين الفينة والأخرى.
الأكيد، وفق ما يقول هؤلاء، إنّ هذا الهدوء لا ينطوي على “طمأنة” للعدو، كما يحاول البعض أن يوحي، لأسبابٍ وغاياتٍ معروفة مجهولة، بدليل أنّ هذا العدو لا يبدو “مطمئنًّا”، بل إنّه يعزّز “استنفاره” أثناء وبعد كلّ إطلالة للأمين العام لـ”حزب الله”، كما يرفع من وطأة “تهديداته” للبنان، وهو ما حصل مثلاً بعد خطاب السيد نصر الله الأخير، حين خرج بعض المسؤولين الإسرائيليين ليحذروا من “مصير” للبنان يشبه “مصير” غزة.
يلفت العارفون إلى أنّ كلام السيد نصر الله واضح لجهة أنّ الكلمة الأولى والأخيرة تبقى للميدان، وبالتالي أنّها رهن بظروفه، وأنّ الميدان هو الذي يتحكّم بمجريات المعركة، علمًا أنّه تعمّد التأكيد على أنّ جبهة لبنان المسانِدة لغزة هي جبهة “ضاغطة” على الإسرائيلي وستبقى كذلك، كما تحدّث عن “ارتقاء كمي ونوعي على مستوى نوع السلاح في جبهتنا”، وهو ما ينسجم مع سياسة “رفع منسوب القلق” لدى الإسرائيلي، وهو ما قال إنّه “مطلوب”.
المستوى الداخلي
وإذا كانت رسائل السيد نصر الله “الحازمة” هذه موجّهة بشكل خاص نحو العدو، فإنّ علامات استفهام تُطرَح حول الرسائل التي يوجّهها في المقابل إلى الداخل اللبناني، ولا سيما أن الاستحقاقات اللبنانية السياسية تغيب عن “صلب” كلامه، من الانتخابات الرئاسية، إلى ملف قيادة الجيش والهواجس من شغور على رأس المؤسسة العسكرية، وسط مخاوف متصاعدة من تدحرج الأمور جنوبًا، نحو “حرب أشمل”، وهو سيناريو لا يزال مطروحًا على الطاولة.
يقول العارفون إنّ “هدوء” السيد نصر الله يجب أن يُفهَم إيجابًا على مستوى الداخل، ولعلّ المؤشر الأبرز على ذلك، أنه حين تحدّث عن الموقف اللبناني، أخذ منه ما هو إيجابي، فوصفه بـ”المؤيّد والمتفهّم لما تقوم به المقاومة الإسلامية في جنوب لبنان”، معتبرًا أنه “مساعد وجيد وقوي، ويجعل من جبهة لبنان جبهة فاعلة ومؤثّرة”، مستثنيًا من ذلك بعض الأصوات والمواقف التي وصفها بـ”الشاذة والقليلة والمحدودة”، وفق تعبيره.
بهذا المعنى، يقول العارفون إنّ السيد نصر الله أراد أن يكون الهدوء عنوان الخطاب، ولذلك فهو حرص على عدم الانجرار إلى الردّ على بعض المواقف “الانفعالية”، خصوصًا من أصحاب شعار “لا للحرب”، الذين لم يتردّدوا في التصويب على الحزب لأنّه “لم يعلن الحرب” تضامنًا مع غزة، وهو لذلك أيضًا بقي بمنأى عن الاستحقاقات الداخلية، للحفاظ على حدّ أدنى من التضامن، تحسّبًا لأيّ تطورات يمكن أن تحدث في المقبل من الأيام.
في النتيجة، يبدو أنّ هدوء “حزب الله” هو تكتيك “حربي ونفسي” يعتمده في هذه المرحلة، التي يصرّ فيها على أنّ الأولوية، كل الأولوية، يجب أن تكون مركّزة على الوضع في غزة، وفي جنوب لبنان. ليس في الهدوء رسالة “طمأنة” للعدو، فالفاتورة التي تُدفَع جنوبًا “ثقيلة”، وعدّاد شهداء “حزب الله” يرتفع يومًا بعد آخر، لكنّ فيه رسالة “ردع” على الأقلّ، باعتبار أنّه بالحدّ الأدنى، “مرتاح” على وضعه، وهنا بيت القصيد!