كنت في الصف الرابع الابتدائي عندما جرى حشد آلاف المصريين لاستقبال جمال عبد الناصر لدى عودته من نيويورك عقب مشاركته في اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة.
فوق الترام العابر أمام باب مدرسة أبي الفرج الابتدائية، احتشد عشرات العمال (بملابس الشغل) حاملين أغصان أشجار خضراء بينما تكدس آخرون فوق سلم الترام الذي راح يتهادى فيما كانت حافلات صغيرة عاجية اللون من طراز “فولكس فاجن”، تحمل ميكروفونات مصلحة الاستعلامات (الهيئة العامة للاستعلامات فيما بعد) تبث منها بعض الأغاني الوطنية، كان صوت أم كلثوم وهي تغني “بالسلام احنا بدينا بالسلام… ردت الدنيا علينا بالسلام”.. وكانت تقول في مقطع آخر من الأغنية نفسها التي كتبها بيرم التونسي “بالسلام.. بالمحبة.. الدنيا تحيا.. ليه يكونوا ناس في ناحية، وناس في ناحية.. تحيا في النور كل أمة، والحقيقة نشوفها لما.. نبتعد عن الظلام… بالسلام”.
كان عبد الناصر يتبنى آنذاك ما أسماه سياسة “الحياد الايجابي” من منطلق أخلاقي، حمل لاحقاً شعار “عدم الانحياز” لأي من الكتلتين الشرقية بزعامة الاتحاد السوفياتي، والغربية بزعامة الولايات المتحدة، بينما كان جون فوستر دالاس وزير الخارجية الأميركي، يرى أن عدم الانحياز “موقف غير أخلاقي”، فيما كانت كلمات بيرم التونسي وصوت أم كلثوم وموسيقى محمد الموجي، تحمل دعوة للتعايش السلمي، وتدعو الى وحدة الأسرة الدولية بدلاً من تمزقها بين كتلتين متصارعتين.
تصور ساذج ليوتوبيا العلاقات الدولية، افترض من طرحوه قابليته للتحقق، وافترضوا أيضاً أن نجاحه سوف يعني بالضرورة تحقيق مصالح حيوية بالنسبة اليهم. وهو ما برهنت الأيام أنه لم يكن صحيحاً بالمطلق.
ميكروفونات مصلحة الاستعلامات، كانت تبث أيضاً أغنية عبد الحليم حافظ “يا جمال يا حبيب الملايين”، التي كتبها اسماعيل الحبروك قبل عامين (١٩٥٨) ولحنها محمد عبد الوهاب وغنتها مصر كلها، كنت في طريق عودتي من المدرسة الى البيت، أنصت الى ميكروفونات مصلحة الاستعلامات والى عبد الحليم حافظ يقول: “صحيت الشرق بحاله.. وديانه وَيَا جباله.. قام بشعوبه وأبطاله.. مع بطل الأمة العربية… وبقينا شعوب حرة أبية…”.
حالة من البهجة والنشوة كان يعيشها هؤلاء الذين خرجوا للاحتفال بعودة عبد الناصر من نيويورك، لم أكن أفهم سر هذه البهجة، وتلك النشوة، لكنني ضبطت نفسي مبتهجاً ومنتشياً… هل كان ذلك بتأثير “سيكولوجية القطيع”؟!.. لا أدري .. ربما، لكن حال البهجة والنشوة صاحبتني حتى منزل الأسرة على نيل روض الفرج.
أجمل ما في تجربة المعايشة خلال سنوات ما بعد تأميم قناة السويس وحتى هزيمة يونيو (حزيران)، هو مقدار تصديق الناس للتجربة التي جرى وصفها بعد رحيل عبد الناصر بأنها “ناصرية”.. كان هذا الصدق وراء مشاعر البهجة الحقيقية لدى جماهير شعبية بسيطة تحتفل بعودة عبد الناصر من نيويورك بعدما ألقى كلمة الجمهورية العربية المتحدة (مصر وسوريا) أمام الأمم المتحدة.
عدوى البهجة التي انتابتني لدى احتفال الشارع بعودة ناصر، لم تستمر طويلاً، ففي سبتمبر (أيلول) من العام التالي١٩٦١، انهارت وحدة مصر وسوريا، فيما وصف بـ “نكسة الانفصال” وكان سقوط دولة الوحدة أول مقدمات تبديد الأوهام بالنسبة لي، اذ لم يغطِ صخب مانشيتات صحف “الأخبار” و”الجمهورية” و”الأهرام”، على الإنجازات والانتصارات ومشاريع غزو الفضاء وامتلاك سلاح ردع نووي، كل هذا لم يفلح في ازاحة مشاعر قلق كامن بشأن مستقبل التجربة التي تجتازها مصر، وقد برهنت الحوادث لاحقاً أن الخوف الفطري لدي من المستقبل كان له ما يبرره.
لم أكن أرى أي داعٍ للاحتفال بعودة رئيس ألقى خطاباً متوازناً أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة، فكل قادة العالم يصنعون الشيء ذاته، ويعودون الى بلادهم من دون أغاني حماسية وحشود جماهيرية ومايكروفونات حكومية صاخبة، لكن هذا ما حدث، من دون أن أفطن الى دواعيه ومبرراته، وأغلبها على ما أظن كان داخلياً، لتعزيز مكانة الزعيم لدى شعبه، وهي كانت قوية بالفعل، أو اقليمياً لتعزيز صورة الزعيم في محيط عربي راهن عبد الناصر عليه وظل يربح الرهان في انتصاراته وانكساراته على السواء.
كانت الأمة المصرية “فرحانة” بابنها البكري، بعد عقم طويل امتد لألفي عام، وكان التأثير المصري في الجوار العربي كاسحاً، بفعل الراديو والسينما، والكتاب والصحيفة.
الاحتفاء الاعلامي المفرط في مناسبة عودة ناصر من نيويورك عام ١٩٦٠، استدعته ذاكرتي وأنا أتابع احتفاء إعلامياً مفرطاً، بسفر الرئيس عبد الفتاح السيسي الى نيويورك وبلقاءاته هناك ثم بكلمته أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة قبل سنوات. البعض وصف الحفاوة الاعلامية (المحلية) بأنها تطبيل لا يليق، باعتبار أن اعلامنا “بيزمر في عبه” فلا أحد في العالم يراه أو يسمعه، بينما اعتبر آخرون أن تلك الحفاوة ذاتها إنما ترمي الى تشديد قبضة الحكم، ربما توطئة لاجراءات لاحقة قد تستهدف تعديل الدستور لتمديد فترات الرئاسة، أو السماح بفترة رئاسية ثالثة.
عبد الناصر لم يكن لديه هاجس التمديد أو التعديل، فهو قد بويع في استفتاء شعبي رئيساً لمدة ست سنوات، قابلة للتكرار من دون سقف لعدد المرات، لكن أغاني أم كلثوم وعبد الحليم حافظ كانت تنتظره لدى عودته، فيما تصدح ميكروفونات مصلحة الاستعلامات “يا جمال يا حبيب الملايين.. ماشيين في طريقك موش ناسيين”.
الذين اعتلوا سطح الترام لاستقبال ناصر لدى عودته، هم أنفسهم الذين اعتلوا سطح الترام نفسه لاستنكار مؤامرة الانفصال، وهم أيضاً، ومعهم الملايين هذه المرة، من خرجوا لمطالبة عبد الناصر بالتراجع عن قرار التنحي. لم أكن مع المجموعة الأولى، ولا كنت في المناسبة الثانية، لكنني في المرة الثالثة خرجت مع ملايين وسط الظلمة الحالكة مطالباً عبد الناصر بالعودة عن قرار التنحي، ليس تمسكاً بزعيم مهزوم كما يظن البعض، ولكن إصراراً على رد الهزيمة، واستعادة الأراضي العربية المحتلة، كان لسان حالي يقول وسط دموع مالحة كانت تلسعني: لن تغادر قبل أن تعالج أخطاءك بنفسك.. لسنا حقل تجارب لآخرين.