قد يكون تدّخل حاضرة الفاتيكان في الشأن اللبناني غير سائر التدّخلات الخارجية، وإن كانت أهداف بعض هذه التدّخلات غير مشوبة بمصالح هذه الدولة أو تلك، مع الاعتقاد السائد أن لا أحد على استعداد للتضحية بمصالحه الخاصة من أجل الخير العام لبلدان وضعها كوضع لبنان. فلا الدول، شقيقة كانت أم صديقة، فاتحة فرعًا من فروع جمعية “كاريتاس”، أي أن من يعطي بيده اليمنى سيأخذ في المقابل بيده اليسرى، مع بعض الاستثناءات يوم مدّت دول الخليج العربي، وبالأخص المملكة العربية السعودية، يد المساعدة لجميع اللبنانيين من دون تفرقة أو تمييز خلال فترات الحرب القذرة، يوم كانت هذه المساعدات مشفوعة بمبادرات سياسية لإخراج لبنان مما هو غارق فيه حتى أذنيه في دوامة العنف الأعمى. ولو لم تمدّ الرياض يد المساعدة السياسية لما أبصر اتفاق الطائف النور، ولما توقّف المدفع.
أمّا الفاتيكان فكانت تدّخلاته الهادئة وحتى “الناعمة” على مدى سنوات الأزمات اللبنانية المتتالية والمتراكمة تنطلق من مبدأ يعتمده الكرسي الرسولي في سياساته الخارجية مع مختلف الدول، وهو عدم التعاطي في الشؤون الداخلية لأي بلد، وبالأخصّ في بلد مثل لبنان غير متفقة الآراء بين أبنائه على مسألة واحدة، وبالتالي فإن التعليمات التي تصدر عن البابوات، الذين تعاقبوا على الكرسي البطرسي منذ العام 1975 حتى اليوم كانت تقضي بإعطاء النصح حيث يجب، مع التشديد على اللبنانيين المسيحيين الالتزام بتعاليم الكنيسة الجامعة والرسولية بما من شأنه إرساء السلام بين بعضهم البعض أولًا، وبينهم وبين إخوانهم في الوطن ثانيًا.
إلا أن تجربة الفاتيكان مع المبادرات، التي لها علاقة مباشرة بالخلافات المسيحية – المسيحية، لم تكن موفقّة بما يضع حدًّا لمسلسل “الأخوة – الأعداء”، الذي لم يُكتب لها نهاية سعيدة. فإذا كانت هذه هي حال الكرسي الرسولي مع “أولاده”، فكيف يمكن أن تكون عليه الحال مع الآخرين؟
إلاّ أن ما يتعرّض له لبنان اليوم يختلف عمّا مرّ به في السابق من أزمات. ولذلك ارتأى قداسة البابا فرنسيس أن يوفد “الرجل الثاني” في هرمية المسؤولية أمين سرّ الفاتيكان الكاردينال بيترو بارولين لكي يقول لجميع اللبنانيين أن البابا ومجمع الكرادلة وجميع أساقفة العالم الكاثوليكي يرفضون تعريض لبنان لحرب لن يقتصر أذاها وأضرارها على الحاضر، بل يطال مستقبل الأجيال الطالعة، مع ما يعربه أكثر من مسؤول عالمي عن خشيتهم من أن تطال شظايا الحرب مختلف دول المنطقة. وما قاله الكاردينال الرسولي في أول تصريح له في مطار رفيق الحريري الدولي عن قلق الفاتيكان على هوية لبنان يعني الكثير بالنسبة إلى عدد كبير من اللبنانيين، الذين يعتبرون أن ما يقوم به “حزب الله” لجهة تعكير علاقات لبنان بالدول الصديقة والشقيقة يصبّ في خانة وضع هذا البلد الصغير القائم على علاقات حسن الجوار مع جميع الدول في زاوية محصورة بعدد قليل من الدول الخاضعة للسياسة الإيرانية في المنطقة، وذلك بغض النظر عن الانفتاح الأخير بين الرياض وطهران، الذي لم يتطّور إلى ما يمكن إدراجه في مندرج المصالحات التاريخية في المنطقة.
وبالتوازي مع القلق الذي يبديه الكرسي الرسولي حيال الوضع المتفجّر في الجنوب على وقع الاشتباكات الصاروخية المتبادلة بين إسرائيل و”حزب الله” يأتي الملف الرئاسي في رأس اهتمامات الفاتيكان، الذي يرى أن انتخاب رئيس جديد للجمهورية يُعدّ مدخلًا طبيعيًا لحلول أخرى، ومن بينها الوضع الاقتصادي المأزوم.
فالكاردينال بارولين يحمل معه بعض الأفكار، التي من شأنها أن تضع الأحصنة الرئاسية أمام العربة وليس العكس. وهذا ما هو حاصل اليوم؛ ولهذا فإن العربة الرئاسية ثابتة في موقعها ولا تتحرك طالما أنها موضوعة أمام الأحصنة. ومن بين هذه الأفكار أن عقدة المنشار الرئاسي هي عقدة مسيحية، أو بالأحرى مشكلة مارونية – مارونية، إذ أن الأقطاب الأربعة، الذين يرأسون الأحزاب المسيحية ينتمون إلى الطائفة المارونية، وهم في شكل أو في آخر مرشحون طبيعيون لرئاسة الجمهورية.
فإمّا أن يجتمعوا تحت عباءة بكركي وبإشراف مباشر من الفاتيكان ويضعوا خلافاتهم جانبًا، ويتوافقوا على الأقل على كيفية انقاذ رئاسة الجمهورية. وإمّا أن يتحمّلوا مع غيرهم مسؤولية ضياع الرئاسة، وتضيع معها الجمهورية التي يعرفها اللبنانيون، وقد تصبح أثرًا بعد عين.
فهل يستطيع “الرجل الفاتيكاني الثاني” أن يجمع ما لم تجمعه المصلحة المسيحية والمصلحة الوطنية؟