يحار المرء كيف يمكن التعامل مع المعطيات الطارئة بالنسبة إلى المفاوضات غير المباشرة بين ممثلي حركة “حماس” والحكومة الاسرائيلية الجارية في الدوحة. ففي المعلومات المتوافرة ما يشير إلى تناقضات جوهرية حيال الحلول المطروحة. فكلا الطرفين يعتبر نفسه منتصرا، وهو يفاوض على هذا الاساس. ولكن في المقابل، فإن الوقائع الميدانية تشي بأن الحرب مستمرة حتى تحقيق أهدافها، أقّله بالنسبة إلى حكومة نتنياهو، التي وصلت إلى مرحلة اللاوزن في الخيارات والقرارات، التي تترنح على خلفية الخلاف الاسرائيلي – الإسرائيلي الداخلي، فضلًا عن مواصلة ارتكابها المجازر في حق المدنيين، الواحدة تلو الأخرى، في خان يونس وفي غيره من مناطق متفرقة في قطاع غزة المنكوب.
Advertisement
وعلى خلفية مفاوضات الدوحة، التي تتأرجح بين التشاؤم والتفاؤل، فإن اللبنانيين يضعون ايديهم على قلوبهم، وهم غير متأكدين من أن اليوم الآتي سيكون أفضل من اليوم الذي أفل، وهم الذين يعيشون وسط كمّ من المشاكل والتعقيدات، التي تبدأ بالحرب الدائرة على الجنوب ومدى تأثيراتها النفسية والمادية على الوضع العام، مرورًا بأزمة الاستحقاق الرئاسي، وصولًا إلى المشاكل اليومية، التي لا تُعدّ ولا تُحصى كثرتها وتشابكها في الوقت، الذي يحتاجون فيه إلى بصيص أمل يبقى ضئيلًا حتى يثبت العكس.
وقد يكون في الكلام الواقعي للأمين العام لـ “حزب الله” السيد حسن نصرالله في طّلته الأخيرة عن استعداد “المقاومة الإسلامية” لوقف اطلاق النار فور اعلان وقف الحرب على غزة وعدم التدّخل في المفاوضات التي تجريها حركة “حماس”، بعضًا من إعادة الأمور إلى طبيعتها العادية. وهذا ما كان يطالب به بعض اللبنانيين، الذين رأوا أن مساندة فلسطينيي غزة تكون بالموقف الموحد والجريء والشجاع في المحافل الدولية في وجه الغطرسة الإسرائيلية، وليس بـ “الحركشة” بوكر الدبابير.
ولكن هل يكفي أن تتوقف الحرب في غزة وبالتالي في الجنوب لكي يبدأ لبنان مسيرة الألف ميل في استعادة سلطته الكاملة على كل شبر من أرضه، وفي استعادة عافيته المنهكة، وهل يكون موقف نصرالله الأخير توطئة لحل سياسي شامل يبدأ بالتوافق على مرشح مستقل لرئاسة الجمهورية وفق الآليات الدستورية والديمقراطية، التي لا تتعارض مع الدعوات إلى أي شكل من أشكال الحوار والتشاور من دون تسجيل سوابق عرفية غير دستورية، وذلك انطلاقًا من قناعة قد تكوّنت لدى الجميع، “ممانعين” و”معارضين”، بأن هناك استحالة بانتخاب رئيس للجمهورية مصبوغ بلون واحد، باعتبار أن التركيبة المجلسية الحالية غير مؤاتية مع ما هو متعارف عليه في الديمقراطيات العالمية، حيث الأكثرية، حتى ولو بصوت واحد زيادة، تحكم وتدير شؤون البلاد والعباد، فيما الأقلية، حتى ولو بصوت واحد ناقصًا، تعارض وتقدّم الطروحات البديلة لطريقة الحكم.
ومن دون هذين الحّلين، أي وقف الحرب على الجنوب ومنه، وانتخاب رئيس للجمهورية بمواصفات قد أصبحت معروفة وواضحة كعين الشمس، لن يكون في لبنان لا اصلاح ولا من يصلحون، وسيبقى الوضع الاقتصادي على حاله الشديدة التعاسة، وسيبقى النازحون السوريون مبعث قلق لجميع اللبنانيين، مسؤولين ومواطنين، وذلك نظرًا إلى ما تشكّله هذه المعضلة من ضغط على كل القطاعات الإنتاجية في البلد.
فإذا لم تهدأ جبهة غزة لن تهدأ الجبهة الجنوبية. وإذا لم يتوقف إطلاق النار على الجنوب ومنه لن نرى رئيسًا للجمهورية في القريب العاجل. وإذا لم يُنتخب رئيس للجمهورية وفق ما ينصّ عليه الدستور اليوم قبل الغد فلن يكون للبنان مستقبل، وستصبح مؤسسات الدولة فارغة شيئًا فشيئًا حتى تضمحل.
الواضح حتى الآن وبالوقائع الحسّية أن نتنياهو وحكومة حربه مستمران في تنفيذ سياسة الإبادة الجماعية. وهذا يعني أن الحرب على غزة ستتواصل فصولها التهجيرية والتدميرية؛ وهذا يعني أيضًا أن الحرب على الجنوب ومنه لن تتوقف؛ وهذا يعني أيضًا وأيضًا أن لا انتخابات رئاسية في المدى المنظور، وأن الوضع الداخلي المأزوم سيبقى على حاله.
وهنا، يتساءل بعض اللبنانيين عمّا إذا كان “حزب الله” قد أخطأ في ربط أزمات لبنان بالحرب في غزة من بوابته الجنوبية؟