نظريًا يمكن القول إن أزمة رئاسة الجمهورية لم تغب عن الكلام الأميركي والفرنسي العلني والهادف إلى منع توسّع الحرب الإسرائيلية. والملاحظ أن الطرفين لم يدخلا في الأسماء وفي التفاصيل، بل اقتصر كلامهما على ضرورة وجود رئيس قبل أي ترتيب مستقبلي. وهذا ما سبق أن قاله الموفد الرئاسي الفرنسي جان ايف لودريان، وبعده الموفد البابوي أمين سر دولة حاضرة الفاتيكان الكاردينال بيترو بارولين عندما زار لبنان مؤخرًا، والذي كشف في لقاءاته البعيدة عن الاعلام قلق قداسة البابا فرنسيس على مستقبل لبنان مع استمرار تغييب دور رئاسة الجمهورية بما ترمز إليه وطنيًا، ما دفعه إلى الاعراب عن خشيته على هوية لبنان بما تعنيه هذه الخشية من ضمور متدرج للدور التاريخي للمسيحيين، من دون أن يكون “الحق دائمًا على الطليان”، بل أن جزءًا كبيرًا من مسؤولية تراجع الدور التاريخي للمسيحيين يعود إلى الخلافات المسيحية – المسيحية وعدم تفاهمهم على الطريقة الأسلم لإنقاذ هذا الدور من الاندثار، وتوازيًا عدم مشاركتهم فعليًا في عملية انقاذ ما يمكن إنقاذه من وطن يتهالك ويتلاشى شيئًا فشيئًا أمام ناظريهم، وهم لا يحرّكون ساكنًا.
Advertisement
فلو كان المسيحيون بكل تلاوينهم، وفي مقدمهم الموارنة والأرثوذكس والكاثوليك، متفقين في ما بينهم أقّله بالنسبة إلى وحدة الحال الرئاسية لما استطاع الآخرون، وبالأخصّ “الثنائي الشيعي”، التأثير على مسرى هذا الاستحقاق، وإن كان وطنيًا وتاليًا مسيحيًا بامتياز، كون رئيس الجمهورية ينتمي دينيًا وعرفًا إلى الطائفة المارونية، ولما كان لبنان يعيش هذا الفراغ القاتل في سدّة المسؤولية الأولى في البلد.
إلاّ أن عودة موضوع رئاسة الجمهورية إلى الحضور في الكلام الأميركي والفرنسي الأخير تجاه لبنان لا يعني بالضرورة أن الانتخابات الرئاسية ستحصل غدًا، لأن الهمّ الأساسي لحركة الموفدين الدوليين إلى لبنان يركّز بالدرجة الأولى على منع توسّع الحرب الإسرائيلية وكبح جماح الردود المتبادلة بين إسرائيل و”حزب الله”. وباستثناء اللقاء الذي عقده الموفد الرئاسي الأميركي آموس هوكشتاين مع وفد “المعارضة” خلال زيارته الأخيرة للبنان، والذي تناول فيه مع أعضاء الوفد موضوع الاستحقاق الرئاسي، لم نلاحظ أن أيًّا من الموفدين الآخرين تطرق في محادثاته مع المسؤولين اللبنانيين إلى موضوع الانتخابات الرئاسية، وإن كان “حزب الله”، الذي لا يزال مصرّا على التمسك بترشيح الوزير السابق سليمان فرنجية، قد نفى أي علاقة بين الوضعين الغزاوي والجنوبي بالاستحقاق الرئاسي.
أمّا أي كلام رئاسي آخر فلم يخرج عن الأدبيات الديبلوماسية للموفدين الدوليين، إلاّ ما يمكن أن تشكّله الرئاسة اللبنانية من اهتمام أممي، وبالدرجة الأولى فاتيكاني وفرنسي، بالنسبة إلى ارتباط هذه المسألة بمستقبل لبنان، وبالتالي أهمية الدور المسيحي في الحياة السياسية اللبنانية من زاوية علاقاتهم التاريخية مع محيطهم العربي. فإذا كان الكلام الفاتيكاني بالنسبة إلى المسرى الرئاسي أكثر وضوحًا من غيره من المواقف، وبالأخصّ في ما قاله الكاردينال بارولين وهو خارج من “عين التينة”، بعد لقائه الرئيس نبيه بري، فإن ما يتطرق إليه الموفدون الدوليون في زياراتهم للبنان بالنسبة إلى الاستحقاق الرئاسي لا يعدو كونه موقفًا مبدئيًا وطبيعيًا، خصوصًا أن ترتيبات المرحلة المقبلة بالنسبة إلى وضعية المنطقة والصيغة التي يمكن التوصّل إليها في محادثات الدوحة – القاهرة، عاجلًا أو آجلًا، تفرض أن يكون على رأس الدولة اللبنانية رئيس للجمهورية.
فما يواجهه لبنان في غياب رئيس الجمهورية، أيًّا كان هذا الرئيس ومن دون الدخول في لعبة أفعال التفضيل، خطير جدًّا. وأخطر ما يمكن أن يحدث هو أن تمرّ المياه الإقليمية من تحت أرجل اللبنانيين وهم مختلفون على “جنس” الرئيس، أو هم غير متفقين حتى على أدق التفاصيل، التي من شأنها أن تنتشل البلاد أقله في الوقت الحاضر من العتمة وتخرجها إلى النور.
ومن الظلمة الدامسة انتقالًا إلى عودة “التيار” إلى بعض من بصيص نور يقف اللبنانيون على قارعة طريق الحلول المتوقعة منتظرين القطار الذي لن يستطيعوا “التعمشق” به لأنهم غير مؤهلين وغير حاضرين، ولأن ليس لديهم رئيس ينطق باسمهم جميعًا إلى طاولة المفاوضات، التي لن يكون لهم فيها مكان إن لم يكن لديهم رئيس منبثق من إرادة وطنية جامعة.