من حيث لم يكن متوقّعًا، فاجأ “حزب الله” العدوّ الإسرائيلي بتسديده “الردّ المنتظر” على جريمة استهداف الضاحية الجنوبية لبيروت، واغتيال قائده العسكري فؤاد شكر، بعدما كاد جيش الاحتلال “يستسلم” لفكرة أنّ الحزب صرف النظر عن الردّ، وأنّه لن يقدم على شنّ أيّ هجوم، أقلّه في الفترة الحاليّة، تفاديًا لأيّ تشويش يمكن أن يُحدِثه على مسار المفاوضات لوقف إطلاق النار في قطاع غزة، ولو أجمع العالم على أنّه متعثّر.
ومع أنّ العدو الإسرائيلي حاول أن يأخذ زمام المبادرة، حين أطلق ما أسماه بالهجوم الاستباقي، قبيل انطلاق ردّ “حزب الله” في محاولة لإجهاض مفاعيله، ليعمّم بعد ذلك معطيات بأنّه “أحبط” مخططات الحزب، فإنّ الأخير حرص على تأكيد “نجاح” الهجوم الذي شنّه بكلّ المقاييس، وضرب “الهدف النوعي” المحدّد له، والذي كان لافتًا أنّه أحاطه بالغموض لساعات طويلة، قبل أن يكشف عنه أمينه العام السيد حسن نصر الله في كلمة متلفزة.
وفي حين نفى الحزب ما وصفه بـ”ادعاءات العدو” بشأن الأهداف المنشودة من الهجوم، فضلاً عن النتائج المحقّقة منه، راميًا الكرة في ملعب “التكتّم” الذي اعتاد عليه الجانب الإسرائيلي في مثل هذه الأمور، فإنّ ردّه الذي أثار الجدل في الكثير من الأوساط، لم يقفل باب علامات الاستفهام حول التبعات المحتملة له، فهل يقفل هجوم الحزب، بمعزل عن نتائجه، صفحة “الردّ الموعود” على هجوم الضاحية، وهل يقفل معه صفحة التهويل بالحرب الآتية؟!
يوم “ماراثوني” طويل
لم يكن يوم الأحد نهارًا عاديًا على طول الجبهة اللبنانية، التي استيقظت باكرًا جدًا على وقع هجوم إسرائيلي صُنِّف الأوسع على الإطلاق منذ العام 2006، وقد شمل عشرات القرى والبلدات الجنوبية دفعة واحدة، في إطار ما وُصِف بـ”الضربة الاستباقية”، بعد رصد تحرّكات لـ”حزب الله”، الذي لم يتأخّر في إعلان بدء ما وصفه بـ”الرد الأولي” على هجوم الضاحية، في “البيان رقم واحد” الذي حافظ على “عنصر المفاجأة” بعدم كشفه كلّ أوراقه.
وبين البيان “رقم 1” والبيان “رقم 3″، وصولاً إلى كلمة الأمين العام لـ”حزب الله” مساءً، حفل “اليوم الماراثوني الطويل”، إن صحّ التعبير، بالكثير من الغموض، فالحزب أعلن في بياناته المتلاحقة عن هجوم جوي بعدد كبير من المسيّرات، شمل مواقع وثكنات سبق أن استُهدِفت على مدار الأشهر الأخيرة، ولكن أيضًا عن ضرب “هدف نوعي” تبيّن بعد كلمة السيد نصر الله، أنّه قاعدة غليلوت الاستراتيجية التي تبعد 110 كيلومترات عن حدود لبنان.
إسرائيليًا، تُرجِم الغموض على أكثر من محور، وأكثر من خطّ، فعلى الرغم من أنّ تل أبيب حاولت القول بأنّها كانت “تعلم” بخطة الحزب، إلا أنّها تعاطت معها بحذر شديد، مع إعلانها حال الطوارئ في بادئ الأمر، وإغلاق مطار بن غوريون، والتهديد بضرب أيّ هدف في الداخل اللبناني ترى فيه “تهديدًا”، قبل أن “تفرغ” الهجوم من مضمونه، وتعلن عودة “الحياة الطبيعية”، رغم اعترافها بمقتل جنديّ، في حادث تكتّمت على تفاصيله أيضًا.
جدل الردّ وتبعاته
وبين سرديّتي “حزب الله” وتل أبيب، يبدو أنّ هجوم الحزب المُعلَن لم يُنهِ الجدل المفتوح منذ توعّده بالردّ بعد ضربة الضاحية الأخيرة، إذ رأى كثيرون فيه “تثبيتًا” للمعادلات وقواعد الاشتباك من جانب الحزب، حتى إنّ هناك من ذهب لاعتبار ردّ الحزب “شكليًا”، بل وضعه في خانة رسائل الردع التي يوجّهها بين الفينة والأخرى، وكأنّه أراد أن يستعرض القوة الموجودة لديه، من دون استخدامها فعليًا للأذيّة، بما يمكن أن يأخذ الأمور إلى سيناريو الحرب.
لكنّ العارفين بأدبيّات الحزب لا يوافقون على هذه المقاربة بحرفيّتها، إذ يؤكّدون أنّ الحزب ليس معنيًا بالحرب الشاملة، التي لم يكن يومًا من دعاتها، فالعدو هو الذي يهوّل، وهو الذي بدأ التصعيد من الأساس، ويشيرون إلى أنّ هجوم الحزب المكثّف لا يمكن أن يوضَع في نفس خانة العمليات اليومية التي ينفذها الحزب، بغضّ النظر عمّا يقوله الإسرائيلي بشأنه، علمًا أنّ الضوابط التي تحدّث عنها السيد نصر الله في خطابه، تنطلق من مبادئ وثوابت أخلاقية بالنسبة للحزب.
وإذا كان صحيحًا أنّ الحزب حرص في المعايير التي اعتمدها في ردّه، عدم توفير “ذريعة” للإسرائيلي يمكن أن يتلطّى خلفها للذهاب إلى حرب، يحمّل الحزب مسؤوليتها، فإنّ الصحيح أيضًا وفق ما يقوله العارفون، أنّ الإسرائيلي لم يكن بعيدًا عن هذه المقاربة، فهو بادّعائه منذ اللحظة الأولى، “إحباط” الهجوم، حتى قبل أن تتكشّف تفاصيله، أراد القول إنّ الأمر “انتهى” بالنسبة إليه، وإنه ليس معنيًا بتصعيد المعركة والصراع أكثر، وهنا بيت القصيد.
ثمّة من يقول إنّ ما أراده “حزب الله” من هجومه، بمعزل عن النتائج المتحقّقة منه، هو أن “يردّ الاعتبار” لنفسه، خصوصًا بعدما أضحى واضحًا أنّ تمريره اغتيال قائد بحجم فؤاد شكر من دون ردّ، يضرّ أكثر ممّا ينفع. لكن أبعد من هذا الهدف، قد لا يكون مُبالَغًا به القول إنّ الحزب أراد أن “يريح” جمهوره، الذي نزح قسرًا عن منازله، وخير دليل على ذلك ترحيل “استكمال” ما وُصِف بالردّ الأولي، إلى أمدٍ لا يبدو قريبًا بالمُطلق!