عانى العراق خلال السنوات الماضية، ولا يزال، من أزمة سكن كبيرة، في ظل وفرة من المشاريع الحكومية لحلها، لكن أغلب تلك المشاريع لا تصل حيّز التنفيذ، وإن وصلت، يتلكأ معظمها. إما إذا تغيرت الحكومة فيطويها النسيان.
وبالدخول إليكترونيا إلى خانة “مشاريع- الإسكان” في قائمة مشاريع وزارة الإعمار والإسكان والبلديات والأشغال العامة، يلحظ المتصفح عبارة “المشروع متوقف” تتذيل العديد من الرسوم البيانية للمشاريع التي تتولاها الوزارة.
وهناك أيضا مشاريع عدة لا يزال العمل فيها جاريا، وأخرى أُنجز بعضها بنسب كبيرة.
وزارة الإعمار واحدة من عدة جهات تنفذ خطط الإعمار والإسكان في العراق، والآن لديها خطّة طموحة، ووضعت سقفا زمنيا لإنجازها بحلول عام 2030، للإسهام في معالجة مشكلة الإسكان، التي يحتاج حلها إلى إنجاز ثلاثة ملايين وحدة سكنيّة، على الأقل.
يقول المهندس نبيل الصفّار، المتحدث الإعلامي باسم وزارة الإعمار والإسكان في حكومة رئيس الوزراء، محمد شياع السوداني، إن هناك خمسة مشاريع إسكانية فقط أُنجزت من أصل 49 مشروعا أطلقت خلال السنوات الماضية في مختلف المحافظات العراقية.
وعن المشاريع المتوقفة، يقول الصفّار لـ”الحرة”: “يجري التعاون مع المحافظات بإحالتها للاستثمار” أو إعادة الشركات التي كانت تنفذها إلى العمل عليها مرة أخرى حتى إن وفرّت جزءاً ولو بسيطاً من الوحدات السكنية، التي قد تخفف الأزمة.
وأشار إلى أن بعض المشاريع كانت قد توقفت بسبب الظروف التي مرّ بها العراق، “خاصة في المحافظات التي عانت من الإرهاب”.
المدن الجديدة
في حزيران عام 2023، أقرّ رئيس الوزراء العراقي، محمد شياع السوداني، إعلان فرص استثمارية لبناء مدن سكنية جديدة، وهي مدينة “الجواهري” في منطقة أبو غريب في العاصمة، بغداد، و”ضفاف كربلاء” في محافظة كربلاء، و”الفلوجة الجديدة” في محافظة الأنبار، و”الجنائن” في محافظة بابل، و”الغزلاني” في محافظة نينوى.
وفي تصريح لاحق للسوداني، قال إن مدينة علي الوردي (نسبة لعالم الاجتماع العراقي) ستكون “أضخم مدينة في تاريخ الدولة العراقية”.
وفي حزيران الماضي، قال رئيس لجنة الخدمات والإعمار النيابية، علي الحميداوي، إن خطة الحكومة للإعمار تتضمن إنشاء 25 مدينة سكنية، إذ يحتاج العراق بين 3 ملايين و4 ملايين وحدة سكنية لحل أزمة السكن.
سيكون تنفيذ هذه المدن على مراحل، كما يقول الصفّار لـ”الحرة”، “شرعنا بتنفيذ خمس مدن كجيل أول، وهذا سيوّفر لنا قرابة 220 ألف وحدة سكنية، والجيل الثاني سيتضمن ست مدن، وستوفر لنا كمرحلة أولى حوالي 100 وحدة سكنية”.
العدد هو أكبر بكثير من هذه الأرقام، بحسب الصفّار، لكن هذه المدن الـ11 “تمت دراستها والتخطيط لها بشكل كامل لتنفيذها على المدى القريب”.
أما على المدى البعيد، فيُتوقع أن توفر المدن السكنية التي أُدرجت ضمن المنهاج الحكومي، وعددها 15 مدينة، بين 750 ألفاً ومليون وحدة سكنية خلال السنوات العشر القادمة، يتابع الصفّار.
وستضم المدن التي شرعت وزارة الإعمار والإسكان في تنفيذها، كما يقول الصفّار، أكثر من 200 ألف وحدة سكنية: “مدينة الجواهري، 30 ألف وحدة سكنية و10 آلاف قطعة أرض مخدومة، علي الوردي (120 ألف وحدة سكنية)، الغزلاني (28 ألفاً)، ضفاف كربلاء (21 ألفاً)، والجنائن (12 ألفاً)”.
وستتضمن المرحلة الثانية تنفيذ مدن في محافظات النجف الأشرف وواسط وميسان وذي قار والمثنى وصلاح الدين، وسيتم الإعلان عنها كفرص استثمارية.
الشرائح المستهدفة
تستهدف المشاريع السكنية المدعومة من الدولة شرائح اجتماعية متعددة، أغلبها من ذوي الدخل المحدود والفقيرة التي لا يمكنها شراء وحدات سكنية، نتيجة الكلفة العالية وصعوبة شروط الإقراض في العراق.
من هذه الفئات “ذوو الرعاية الاجتماعية وذوو الشهداء في عدد من الوزارات، بالإضافة للأرامل”، وفق الصفّار.
ويشير أن الحكومة قررت إضافة “شريحة الشباب من غير الموظفين” خلال اجتماع عُقد الثلاثاء، وسيتم في هذا السياق تخصيص نسبة من الوحدات السكنية في المدن الجديدة.
أما تحديد المستفيدين من جميع هذه الشرائح، فسيتم بالتعاون مع الجهات ذات العلاقة، مثل وزارة العمل وزارة الدفاع ووزارة الداخلية ووزارة الهجرة والمهجرين، ولاحقاً يتم توزيع الوحدات بينها بنسب معيّنة.
رئيس تحرير جريدة “الاقتصادية” العراقية، كريم الحلو، لخص من جهته أبرز المآخذ والملاحظات حول المشاريع السكنية الجديدة، منها أن شروط الحصول على هذه الوحدات لم تكن منصفة بحق العائلات ذات الدخل المحدود. فالحكومة بحسب رأيه، سمحت للجميع بشراء الوحدات في هذه المجمعات ولم تعط الأولوية للذين لا يملكون منازلا.
ويقول الحلو في حديث لموقع الحرة، إن هذا الأمر سمح للتجار ورجال الأعمال والمستثمرين بشراء المزيد من العقارات ما أدى إلى ارتفاع غير طبيعي في أسعار هذه الوحدات السكنية لتتراوح الآن ما بين 150 مليون دينار عراقي (ما يقارب 115 ألف دولار) إلى 400 مليون دينار (حوالي 306 ألف دولار). أسعار يقول الحلو إنها أغلى من نيويورك وواشنطن.
طبيعة الاستثمار وحصّة الدولة
يقول المتحدث باسم وزارة الإعمار والإسكان، الصفّار، إن طبيعة الاستثمار ستختلف مع المدن الجديدة، إذ أن “الدولة ستحصل على حصة مقابل الأراضي الممنوحة كاستثمار، قسم من الوحدات السكنية سيّوزع بأسعار مدعومة من الحكومة، والقسم الآخر، هناك توجّه بأن تتكفّل الحكومة بتحمل 50 في المئة من قيمة الوحدة السكنية والـ50 في المئة المتبقيّة يتحمّلها المستفيدون عبر قروض ميسرة تُقَسّط على مدى 20 عاماً”.
باقي الوحدات يبيعها المستثمر بأسعار مسيطَر عليها تُثّبت في دراسة الجدوى، وستكون “بكل تأكيد أقل من الأسعار في المجمعات الاستثمارية الحالية”، يتابع الصفّار.
لكن الحلو قلل من جدوى الخطوات الحكومية، بسبب “الفساد في آليات بيع الوحدات السكنية في مشاريع استثمارية تبنى على أراض تابعة للدولة”. وأضاف، أن هذه الثغرات في الخطط الحكومية الإسكانية، وقفت عائقا أمام الموظف والعامل لتحقيق حلم شراء عقار أو سكن له.
وفي العام الماضي، قال المركز العراقي الاقتصادي السياسي إن “ارتفاع الأسعار في المناطق السكنية والتجارية بأكثر من مثيلاتها في لندن ودبي لأكثر من 12 ألف دولار للمتر يرجع إلى الفساد الكبير في مبيعات العقار”.
وذكرت لجنة النزاهة النيابية العراقية، في أيار عام 2023، إنها فتحت ملف عقارات الدولة لبيان كيفية بيعها وإيجارها في السنوات السابقة.
وأعلنت وزارة العدل العراقية، في نيسان عام 2023، تنفيذ برنامجها الخاص بحماية المال العام واسترداد الأموال المنهوبة، وأكدت استحداث شعبة في دائرة التسجيل العقاري لمتابعة جرائم غسيل الأموال مع الجهات المعنية، بحسب ما نقلته وسائل إعلام محلية.
والخميس، اجتمع وزير العدل العراقي، د. خالد شواني، مع أعضاء اللجنة النيابية الخاصة بالحفاظ على أملاك الدولة.
وتمحور الاجتماع حول أهمية إحصاء العقارات الحكومية ووضع آليات عملية لإنشاء قاعدة بيانات شاملة تسهم في إدارة الممتلكات العامة بشكل فعال.
ناقش المجتمعون آليات إعداد قاعدة بيانات دقيقة للعقارات التابعة لمؤسسات الدولة، حيث أكد شواني على “أهمية التنسيق الوثيق بين الجهات التشريعية والتنفيذية لضمان الحفاظ على أملاك الدولة وحمايتها”، مشدداً على أن هذه “القاعدة ستشكل أداة محورية في تعزيز نظام الحوكمة والتصدي للتجاوزات أو الاستغلال غير المشروع للعقارات الحكومية”، وفق ما نقله موقع وزارة العدل العراقية.
في الوقت الحالي، تمت تهيئة 20 تصميما أساسيا أوليا لإنشاء المدن في مختلف المحافظات، بالتعاون مع مجالس المحافظات المعنية، لأن المسألة الأساسية بين أيديهم، وهي بحسب الصفّار “تهيئة الأراضي وإزالة التجاوزات واستملاك الأراضي ثم تسليمها إلى المؤسسات البلدية وتثبيت حدودها، حتى يتسنّى للفريق المشَكّل برئاسة وزير الإعمار والإسكان (بنكين ريكاني)، الإعلان عنها كفرص استثمارية”.
ويشير إلى أن رئيس الهيئة الوطنية للاستثمار، حيدر محمد مكية، أعلن عن إحالة هذه المدن للمطوّرين والمستثمرين.
يصف الحلو المدن السكنية الجديدة بـ “مشاريع VIP”، ويشرح سبب ذلك بالقول: “إن حكومة السوداني بنت معظم هذه المشاريع ضمن مواصفات ونمط واحد، ولم تخصص مثلا مشاريع سكنية اقتصادية للعائلات الفقيرة ومتوسطة الدخل، وهي الشريحة الأكثر تأثرا بأزمة السكن الحالية”، بحسب تعبيره.
وفي يونيو الماضي، قال رئيس لجنة الخدمات والإعمار النيابية، علي الحميداوي، لوكالة الأنباء العراقية “واع”، إن هناك “7 آلاف مجمع سكني عشوائي وثلاثة ملايين وحدة سكنية عشوائية في العراق”، موضحا أن” مجلس النواب يعمل على تشريع قانون يتعلق بإفراز الأراضي الزراعية التي تقع ضمن التصميم الأساسي، مختلفاً عن القرار الحكومي المعمول به”.
وبناء المدن الجديدة سيتطلب فعلياً إزالة كثير من هذه التجاوزات، وهو ما بدأ فعلياً لصالح مشاريع إسكانية أخرى، ونجمت عنه اعتراضات كثيرة من سكان العشوائيات، الذين لا مأوى لهم سوى هذه الأماكن التي تفتقر لأبسط الخدمات، بحسب ما نقلت وسائل إعلام محلية.
الحلو بدوره كشف عن وجود مشاريع سكنية متلكئة لأسباب عدة، أبرزها تأخر الحكومة في صرف سلف المقاولين، ويقول إن هذا التأخر يعود إلى غياب موازنة مالية للدولة العراقية طوال الأشهر الماضية، موضحا أن صرف المستحقات المالية لم يتم إلا قبل أسابيع معدودة، وأن هذا التأخر أجبر بعض المقاولين على إيقاف تنفيذ تلك المشاريع، بحسب تعبيره.
الروتين والبيروقراطية والتلكوء في صرف القروض الصناعية للمعامل الانشائية سبب آخر أدى إلى تلكؤ أو إيقاف بعض المشاريع السكنية في العراق. ويذكر الحلو أن مايحتاجه البلد الآن هو “بناء مجمعات سكنية حسب القدرة الشرائية للمواطن”.
وفي سؤالنا عن السقف الزمني لإتمام المدن، يوضح الصفّار أن الأمر يعتمد على حجم كل منها، فمثلاً مدينة “الجواهري” سيستغرق إنهاؤها ما بين ثلاث إلى خمس سنوات، بينما ستستغرق “علي الوردي” ما بين خمس إلى ست سنوات لأنها أكبر.
“لكن ما يهمنا أن حصة الدولة ستُعطى أولاً، وهي الوحدات السكنية التي يتم إنهاؤها في البداية”، يؤكد الصفّار.
ومن الضوابط الحكومية على المستثمرين، يؤكد الصفّار: “عدم المضاربة بالأسعار، وعدم السماح لمواطن بشراء أكثر من وحدة سكنية”.
رئيس تحرير جريدة “الاقتصادية” العراقية، الحلو، اتفق مع آراء مراقبين آخرين أشاروا إلى أن المجمعات السكنية الجديدة “كانت بابا من أبواب الفساد، لأنها تحولت إلى وسيلة لجأ إليها البعض لغسيل الأموال” بحسب تعبيره.
وينهي الحلو حديثه بالتساؤل كيف يمكن لشخص عادي أن يصبح “مليارديرا” في فترة قصيرة ويشتري عقارات بأسعار خيالية، إذا لم يكن متورطا بالفساد الإداري والمالي والرشوة، وهي أسباب جعلت من الفقير والموظف ضحية لما يحدث الآن في سوق العقارات في العراق، على حد قوله.
وبحسب صحيفة الصباح الرسمية، يقدَّر مختصون أنَّ العراق بحاجة إلى قرابة خمسة ملايين وحدة سكنيَّة لإنهاء أزمة السكن المستفحلة منذ عقود.
وتشير إلى أن “العاصمة، بغداد، تقع في مقدّمة ترتيب مؤشرات العجز بنسبة 31 في المئة، كما أنَّ نسبة العجز السكني للعامين 2023 – 2024 بلغت 26 في المئة من مجموع سكان العراق البالغ 45 مليون نسمة”. بحسب الصحيفة.
وذكرت الصحيفة أن “العراق يشهد أزمة سكن حقيقية وفعلية منذ عقود ماضية وحكومات متعاقبة، نتيجة عدم وجود تنفيذ مشاريع إسكان وسكن كبيرة تلبي حجم الفجوة الحالية، فضلاً عن الأسعار الباهظة للعقارات”. (الحرة)