بعد مرور أكثر من ستة أسابيع على التوغل العسكري الذي قامت به كييف في منطقة كورسك الروسية، لا يزال الجنود الأوكرانيون مبتهجين بالمثلث الأبيض المثبت على مئات المركبات التي تعبر الحدود إلى الأراضي الروسية. فأوكرانيا تحصن مواقع قواتها في كورسك الروسية وتتشبث بالأرض، على أمل وضع نهاية للحرب عبر طريق ثالث بين الاستسلام والانتصار الكامل.
وقالت مجلة “فورين بوليسي”، فإن المثلث الأبيض هو رد رمزي على رموز “Z” و”V” على المركبات الروسية التي هاجمت أوكرانيا في شباط 2022.
وبمرور الأيام، أصبحت المثلثات البيضاء صورة أيقونية لعملية كورسك التي قد تكون المفتاح لكيفية انتصار كييف في هذه الحرب.
رحلة المتطوعين
وسُمح لمجلة “فورين بوليسي” بالوصول بشكل غير عادي إلى بلدة سودجا التي يسيطر عليها الأوكرانيون في جنوب غرب كورسك، في وقت لا يُسمح فيه إلا لعدد قليل جدًا من الصحفيين بالدخول إلى منطقة قتال نشط للغاية.
ودخل موفد المجلة إلى المنطقة ملحقاً بمجموعة من المتطوعين جلبوا تحديثات تكنولوجية ممولة من تبرعات الجمهور – بما في ذلك مركبات الطرقات الوعرة، وطائرات بدون طيار، سواء كانت جاهزة أو مصنوعة حسب الطلب؛ وأجهزة تشويش على إشارات الطائرات بدون طيار ومولدات- إلى الكتائب التي تقاتل على الجبهات.
وجرى تركيب أحد هذه الابتكارات على مركبة، وهو كاشف للطائرات بدون طيار محلي الصنع، والذي يقوم بمسح الترددات لتحديد الطائرات بدون طيار، ويصدر صفيرًا ويومض باستمرار.
ولم تكن هناك أسلحة في المركبات، ولم يكن أي من المتطوعين مسلحين. ولكن أهمية المعدات التي كانوا يوصلونها كانت واضحة على وجوه القادة المرهقين في الميدان.
إذ أصبحت أجهزة الكشف عن الطائرات بدون طيار وأجهزة التشويش، التي غالبًا ما يقوم بتجميعها مهندسون أوكرانيون باستخدام أجزاء مطبوعة بتقنية الطباعة ثلاثية الأبعاد، قطعًا مطلوبة بشدة من القوات الأوكرانية. وحتى لو كانت هذه المعدات توفر بضع ثوانٍ إضافية من التحذير، فإن هذا الوقت يمكن أن ينقذ الأرواح.
وفي الميدان، لم يكن هناك أي علامة على انسحاب أوكراني أو استعداد للانسحاب. بل إن معظم حركة المرور التي تحمل علامات مثلثات بيضاء تتجه في اتجاه واحد، إلى داخل الأراضي الروسية.
“خطة النصر”
وتأمل كييف في أن تساعدها هذه المناورة العسكرية في المنطقة على قلب موازين الحرب.
وصرح الرئيس الأوكراني، فولوديمير زيلينسكي في آب، بأن توغل كورسك، كان جزءًا من خطته لـ”النصر”، وهي خطة تهدف إلى منع تحول الحرب إلى صراع مجمد يصب في صالح موسكو.
وفي الجانب الروسي من الحدود، كان هناك مدفع هاوتزر أوكراني ذاتي الدفع محطم على جانب الطريق، إلى جانب عدة قطع محترقة من المدرعات الروسية، في إشارة إلى أن كلا الجانبين دفع الثمن.
ومرّ فريق المتطوعين، بمبنى محترق، تظهر عليه آثار هجوم بالقذائف، والنيران تومض في جمره الخافت.
كان رجلان روسيان يقفان خارج ذلك المبنى، يتحدثان بشكل عرضي بينما كان المكان يحترق، وكان أحدهما يدخن سيجارة بيد بينما يمسك مقود دراجة قديمة باليد الأخرى.
“انتصار سياسي”
ووفق فورين بوليسي، حققت كييف “انتصارًا سياسيًا كبيرًا” في كورسك سواء بقيت أو قررت الانسحاب من هذه المنطقة في الأشهر المقبلة، إذ قللت تهديدات بوتين العلنية والخطوط الحمراء التي رسمها منذ بداية الحرب.
ولكن بعض الأهداف الاستراتيجية الأخرى كانت أقل نجاحًا. إذ كان زيلينسكي يأمل في أن تسرّع هذه العملية أيضًا قرار السماح لأوكرانيا بضرب عمق الأراضي الروسية باستخدام صواريخ كروز التي يرسلها الغرب.
وفي حين رفض البيت الأبيض تغيير موقفه في هذا الشأن، فإن تنامي قدرات أوكرانيا المحلية بعيدة المدى في الداخل ألحق أضرارًا متزايدة بالخط الخلفي الروسي في الأسابيع الأخيرة، مما زاد من إحراج الكرملين.
كما كان الهدف من العملية أيضًا تحويل القوات الروسية بعيدًا عن الحملة المتسارعة للاستيلاء على ما تبقى من إقليم دونيتسك الشرقي الأوكراني من كييف.
ضربات روسية
ومع ذلك، وعلى الرغم من تكبدها خسائر فادحة، واصلت روسيا التقدم ببطء في شرق أوكرانيا لعدة أشهر. واستولت القوات الروسية للتو على مدينة فولدار الأوكرانية، أو بالأحرى على بقايا المدينة المشتعلة.
وقاتل الأوكرانيون دفاعًا عن فولدار منذ تشرين الأول 2022، لكنها سقطت أخيرًا بعد ما يقرب من عامين من الحرب المستمرة.
وتتهاوى دفاعات أوكرانيا في الشرق تدريجيًا تحت وطأة الهجمات التي تبدو لا متناهية التي تشنها القوات الروسية على المواقع الدفاعية الأوكرانية المنهكة.
طريق ثالث
إلا أن التوغل في كورسك ربما ساعد على تحقيق هدف استراتيجي أوسع نطاقاً. فإذا استمرت أوكرانيا في الدفاع عن تلك الأراضي الروسية بنجاح – فإنه في حال تجميد هذا الصراع على خطوط السيطرة الحالية، لا يمكن لموسكو أن تدعي أي نوع من الانتصار في هذه الحرب.
ومع ذلك، ظهرت نظرية أوكرانية للنصر في منطقة كورسك، وإن كانت لا تزال في بدايتها المفاهيمية، إذ يتصور الأوكرانيون أنهم قادرون على مقايضة الأراضي الروسية في كورسك، وربما أبعد من ذلك، بأراضيهم المحتلة، على الأقل في خيرسون وزابوريجيا، إن لم يكن أيضًا في شبه جزيرة القرم ودونيتسك ولوهانسك، وفق فورين بولسي.
المجلة قالت أيضا، “عزز هذا الهجوم، على أقل تقدير، من موقف الأوكران بشكل كبير في أي مفاوضات مستقبلية”.
وفي حين أن استسلام كييف غير وارد والنصر العسكري الكامل لأوكرانيا غير مرجح في المستقبل المنظور، فإن التفاوض القائم على تبادل الأراضي المحتلة يؤسس على الأقل لطريق ثالث موثوق للخروج من هذه الحرب، يمكن من خلاله لكييف أن تعلن “انتصارها” بعد أن استردت أراضيها من الروس. (العين الإخبارية)