“قتلوا أهلي وإخوتي وأقاربي، يا حسرتي عليهم”.. بهذه العبارات تتحدث الشابة كاملة علي المحمد عن مجزرة “وطى الخيام” الجنوبية، وإلى جانبها بقيّة من سَلِم من عائلتها النازحة إلى مركز إيواء في البقاع الغربي، هربا من الغارات الإسرائيلية المستمرة على البلاد منذ ما يزيد على عام ونيف.
ووقعت المجزرة عندما استهدفت الغارات الإسرائيلية عدة منازل لعائلة المحمد في 28 تشرين الأول الماضي، مما أدى لاستشهاد 21 مواطناً جُلهم من المُسنين والنساء والأطفال، بينما حال رصاص القناصة الإسرائيليين بين الناجين وبين سحب جثث ذويهم من تحت الأنقاض لمدة 11 يوما.
العناق الأخير
تستذكر كاملة (25 سنة) اللحظات الأخيرة في وداع أهلها قبيل مغادرتهم مركز نزوح في البقاع إلى “وطى الخيام” لتفقّد منازلهم وأماكن عملهم، وتقول: “ودعتهم فرداً فرداً، عانقتهم بشدة، كنت خائفة جداً، ربت أبي على كتفي قائلا: لا تخافي يا ابنتي نتفقد منازلنا ونرجع، وكانت هذه آخر عبارة سمعتها منه، كلماته لم تُدخل الاطمئنان إلى قلبي، بل ازداد خوفي، وانتابني إحساس غريب بأن رحلتهم طويلة”.
في حديثها عبر “الجزيرة نت”، تقول كاملة إن المجزرة وقعت بعد يوم من وصول ذويها للمنطقة، وأن جثثهم أصبحت حبيسة تحت ركام المنازل التي تم قصفها.
وتصف كاملة شعورها آنذاك قائلة: “اجتاحتني صور كثيرة لأبي وأمي وإخوتي تحت الركام، وارتسم مشهد قاسٍ في مخيلتي، طردته ثم عاد مجدداً، فنفضته عني لأستعيد وجوههم الباسمة زمن التئام العائلة في الدار أو في سهراتنا”.
وتضيف: “بكيت كثيراً، بكيت دماً، سألت نفسي هل حقاً قتلوا؟ أأنا في واقع أم في حلم قاسٍ؟ وبماذا يشعرون الآن؟ آخ يا وجعي”.
وعند سؤالها إن كانت تستطيع بلوغ “وطى الخيام” مع أقاربها لانتشال الجثث، أجابت كاملة بحسرة أنها لم تستطع الوصول إلى المنطقة بحكم تمركز الدبابات الإسرائيلية فيها لمدة 10 أيام، وتقول إنها ذاقت فيها المر، وتضيف: “كانت المصيبة تكبر كل يوم، حتى أن انتشال جثثهم لم يخفف من هول الكارثة، فراقهم صعب وقاس”.
“قُتلوا مرتين”
تُعد مجزرة “وطى الخيام” واحدة من عشرات المجازر التي ارتكبها الجيش الإسرائيلي في لبنان حاصدا عائلات بأكملها، لكن ما جعلها مختلفة هو احتجاز قوات الاحتلال جثث مدنيين وأطفال تحت الركام، دون السماح بانتشالها إلا بعد مفاوضات مع الصليب الأحمر الدولي وقوات “يونيفيل” والصليب الأحمر اللبناني.
ويقول هشام المحمد (31 عاما) الوحيد الناجي من عائلة علي دياب المحمد، متسائلاً: “لا أصدق ما حصل معنا، هل صحيح أنهم رحلوا إلى غير رجعة؟ ما ذنبهم؟ ما ذنبنا؟ كيف كانت حالهم تحت ذلك الركام؟ بماذا شعروا؟ وماذا قالوا قبل لقاء ربهم؟ هكذا غادرونا كنسمة عابرة، يا الله”.
وأضاف في حديثه للجزيرة نت: “قُتل أبي وأمي و7 من إخوتي الشباب الذين تتراوح أعمارهم بين 19 و35 عاما، وقتل عمي خالد وزوجته وأولاده الخمسة وزوجة ابنه و3 من أحفاده تتراوح أعمارهم بين 6 أشهر و3 سنوات، إضافة لشاب سوري يعمل معنا يدعى باسم التاجر، ولم يتبقّ من عائلة عمي خالد سوى ابنه حمزة”.
ولم تقتصر خسارة عائلة المحمد على فقد ذويهم، بل تسببت الغارات بخسائر مادية كبيرة. هنا، يشرح هشام قائلاً: “كل شيء تهدم في الوطى، منازلنا ومصادر المياه والبنى التحتية المتواضعة ومزارعنا التي كنا نربي فيها الأغنام والماعز، لم يتبقّ منها شيء” مؤكدا أن كل تلك الخسائر البشرية والمادية لن تمنعه من العودة فور استتباب الوضع ليعيد بناء ما تهدم. وقال “لن ننكسر، سنعيد وطى الخيام إلى سابق عهدها”.
وسبق أن تعرضت “وطى الخيام” لاعتداء إسرائيلي مشابهة في حرب 2006، تعرض خلالها التجمع السكاني لعائلة المحمد تحديدا لدمار في الممتلكات لكنه كان أقل قسوة.
وتقول عليا المولى الناجية من عدوان 2006، والتي استشهد زوجها آنذاك، إن “ما حصل في العدوان الحالي لا يتصوره عقل، لقد أبلغونا ليلة 28 من تشرين الأول أن ذوينا محاصرون، وفيما بعد قالوا لنا إنهم استشهدوا، لقد دفنوا مرتين مرة تحت الردم وأخرى تحت التراب، عشت أياما سوداء لم أعرفها في حياتي” مؤكدة أنها لم تستطع النوم طوال فترة احتجاز هذه الجثث.
محاولات الانتشال
كان عبدو عبد العال الذي يقع منزله على مسافة 500 متر من البلدة شاهداً على لحظات قصف منازل وطى الخيام قبيل ساعات من تقدم الدبابات الإسرائيلية نحوها.
ويستعيد عبد العال تلك اللحظات قائلاً: “كانت الساعة 7 مساء عندما سمعنا أصوات طائرات حربية في سماء المنطقة، وفي موازاتها كنا نسمع من بعيد أصوات تبادل إطلاق المدفعية والصواريخ بين المقاومة والعدو الإسرائيلي، فجأة دوى انفجار قوي جداً أعقبه انفجارات متتالية، صبت جميعها فوق منازل الوطى”.
وأضاف -في حديثه للجزيرة نت- أن القصف اشتد واستحال على أي من الأفراد أو سيارات الإسعاف الوصول إلى المنطقة، وبقي الوضع على حاله لساعات طويلة، لكنهم نجحوا اليوم التالي بالدخول وانتشال جثث 5 شهداء قبل أن يعاود الطيران الإسرائيلي القصف، فاضطروا للمغادرة وبقيت جثث بقية الشهداء محتجزة حتى الجمعة الماضية.
ويؤكد عبد العال أن “مجزرة وطى الخيام تعد واحدة من عشرات المجازر التي ارتكبها العدو الإسرائيلي، وستبقى في سجله الأسود كغيرها من المجازر التي يرتكبها اليوم في لبنان”.
وقد أسفر العدوان الإسرائيلي على لبنان منذ 8 تشرين الأول 2023 عن ما يزيد على 3 آلاف و136 شهيدا ونحو 14 ألف جريح، بينهم عدد كبير من الأطفال والنساء، فضلا عن نحو 1.4 مليون نازح. (الجزيرة نت)