من “التاكسي” إلى بابة زنزانة صيدنايا.. كلمات تختصر معاناة الفلسطيني إبراهيم سليم فريحات الذي قضى في السجن السوري الشهير منذ العام 2007 ولغاية العام 2024.
17 عاماً كانت كفيلة بقلب حياة فريحات رأس على عقب، وإبان انهيار النظام السوري فجر الأحد الماضي، خرج الرجل البالغ من العمر 70 عاماً من المعتقل لتروي عائلته تفاصيل المعاناة بأكملها.
ينقل تقرير لموقع “بلينكس” الإماراتي إن قصة فريحات بدأت في شتاء العام 2007 وكُتبت كلماتها الأخيرة في شتاء العام 2024، ويضيف: “تفاصيل القصة كثيرة لكن العائلة لم تفصح عنها إلا بعد خروج إبراهيم”.
وفقا للتقرير، فإن ابنة فريحات تمكنت من زيارة والدها مرة واحدة فقط في سجن صيدنايا وذلك عام 2011، وحينها، قال الأب لابنته: “الحمدلله.. الله يديم بشار”.
وليد فريحات، ابن المعتقل المحرر إبراهيم فريحات قال مع أخته إنهما فقدا والدهما في شتاء 2007، حيث كان يعمل سائق تاكسي في الأردن، وأضافا: “إبراهيم مثل العديد من الفلسطينيين من سكان الضفة الغربية، عملوا في الأردن ومنهم مَن يحمل جواز السفر الأردني المؤقت، فيما يحمل بعضهم جوازا أردنيا برقم وطني”.
وتتابع العائلة: “إبراهيم كان يملك رقماً وطنياً أردنياً بالإضافة إلى جنسيته وهويته الفلسطينية. في العام 2007 غير إبراهيم فريحات خط التاكسي الذي كان يعمل عليه وأصبح لديه سيارة أجرة خارجية تنقل الركاب من منطقة العبدلي في العاصمة عمّان إلى دمشق ثم بيروت”.
وأكملت العائلة: “في إحدى رحلات إبراهيم، التي لم تستطع العائلة تحديد وقتها، اعتقل إبراهيم وزُج به إلى صيدنايا بعمر الـ53 عاماً”.
ابنة إبراهيم، لم تكن متزوجة وقت اعتقال أبيها، لكنها بعد فترة تزوجت وأنجبت ووالدها لا يعرف عنها شيئا وهو في المعتقل، وكذلك هي لا تعرف عن أبيها شيئا. وبحسب تقرير “بلينكس”، فإنه في بدايات العام 2011 وقبيل اندلاع الثورة السورية، تلقت عائلة إبراهيم اتصالا من شخص سوري عرف عن نفسه أنه معتقل سابق في سجن صيدنايا وأنه خرج لتوه ويحمل رسالة من إبراهيم لعائلته.
يقول وليد إنهم فرحوا وقتها لأن والدهم “على الأقل ما زال حيا”، ووقتها قررت الابنة أن تذهب إلى صيدنايا. خرجت من جنين في الضفة الغربية إلى الأردن، وباشرت في إجراءات التأشيرة إلى سوريا يجواز سفرها الأردني.
وصلت الموافقة على التأشيرة منتصف آذار 2011، بالتزامن مع بدء الاحتجاجات في سوريا، الكل كان خائفا لكن الابنة “لم تخف”، واستكملت مشوارها إلى سوريا، على حد تعبيرها. وفي 21 آذار وصلت دمشق، وذهبت لإصدار تصريح لزيارة أبيها، لكن العسكري قال لها إن اليوم “عيد الأم” ولا يصدرون التصاريح.
عادت في اليوم التالي وأصدرت التصريح وذهبت إلى صيدنايا، لكن عندما وصلت شعرت بالخوف عندما دخلت المبنى الذي وصفته بالمبنى الثلاثي الضخم، واعتقدت أن هذا هو سجن صيدنايا لكنها اكتشفت أنه جزء صغير من السجن.
تقول الابنة إنها شمت رائحة رطوبة عفنة بمجرد دخولها، وعن هذه اللحظة تقول: “فتشوا كل سنتميتر من جسدي ثم رافقني عسكري إلى تحت الأرض أنا وكل الزائرين دخلنا من سرداب طويل حتى وصلنا إلى غرف مرقمة أجلسونا فيها لساعات”.
كانت تتوقع الابنة أن أبيها ليس بعيدا، لكنها تفاجأت عندما نادوا باسمها للزيارة. أخرجوها من المبنى وركبت حافلة معتمة الزجاج وصفتها بأنها “أسود مثل كحل الليل من الداخل، حيث لم أر شيئا خارج الحافلة”. انطلقت بالحافلة مع الزوار الآخرين لمدة بين 5 إلى 7 دقائق، وأنزتلهم داخل مبنى آخر جلسوا فيه بغرف مرقمة أيضا.
تأسس سجن صيدنايا في عهد الرئيس السوري السابق حافظ الأسد في ثمانينيات القرن الماضي، وتُقدّر مساحته بـ1.4 كيلومتر مربع، ويتكون من 3 بنايات تلتقي في منطقة مشتركة في المنتصف وكل بناية فيها تتكون من 3 طوابق، لكن المرصد السوري يؤكد وجود سراديب تحت الأرض لاحتجاز المعتقلين.
شهادة عائلة إبراهيم فريحات يمكن أن تفسر عدم عثور الدفاع المدني السوري على مدخل ما يعرف بـ”السجن الأحمر” لأن ابنة إبراهيم أكدت أن والدها كان معتقلا خارج المبنى الثلاثي المعروف الذي صممه مهندسون من ألمانيا.
مر الوقت ثقيلا على الابنة وهي تنتظر، وبدأت تسمع أصوات الجنازير الحديدية التي تبين لاحقا أنها مشبوكة بأقدام المعتقلين وهم يجرونها، سمعت الابنة أصوات صرخات واستغاثة، ورأت عبارات مكتوبة على الجدران تمجد الأسد.
جاء جندي اصطحبها إلى والدها، تقول إنهما الاثنين أجهشا بالبكاء وقت اللقاء وكان الأب خلف شبك حديدي تفصله مسافة 30 سنتميترا عن شبك حديدي آخر تقف الابنة خلفه مع الجندي. هنا، تقول السيدة: “لم أعرف ملامحه التي بدت أنها تغيرت، وعندما تمالكت نفسي عرفت أنه أبي وملامحه كما هي لا تتغير، حتى اليوم عندما أرى صورته أقول إنه لم يتغير لكنه شاخ كثيرا”.
استمرت المقابلة في صيدنايا 40 دقيقة، ممنوع خلالها الحديث عن أسباب اعتقال الأب أو ظروفه، وظل يردد “الحمد لله الحمد لله” وطلب مالا يتدبر به أموره وقال لابنته أن تعطي المبلغ للعسكري فهو ممنوع من اصطحاب أي شيء معه.
العودة مذاقها مر
تقول الابنة لبلينكس إن والدها من “أقل الناس الذين تعرضوا للتعذيب في صيدنايا”، وبعد زيارتها له أصبح تواصله مسموحا كل شهرين مرة، يتصل بشخص يعرفه في سوريا وينقل رسائله إلينا، ويطلب أموالا، ويسأل عن حالهم ومَن تزوج من العائلة؟ ومن توفي؟”.
ابنه وليد أوصى “الوسيط السوري” الذي يتواصل معه أن يسأله عن سبب اعتقال والده فما كان من الأب إلا ترديد “الحمد لله، الله يديم بشار” وظل يرددها كلما سئل عن أحواله.
اعتقدت عائلة فريحات أن إبراهيم معتقل لأنه حامل للجنسية الفلسطينية التي تحوي كلمات مكتوبة باللغة العبرية، وذلك حسب ما قال لها أحد السوريين الذي ادعى إنه على علم بقضية إبراهيم.
إبراهيم بعد خروجه من السجن أجرى مقابلة مع قناة المملكة الأردنية وقال إنه أوصل حقيبة صغيرة فارغة لزبون من عمان إلى دمشق، واتهم فيما بعد باحتواء الحقيبة على رسالة ضد النظام السوري.
يقول وليد إنه أرسل أموالا شهرية لوالده بعد الزيارة، لكنه لم يكن متأكدا أنها كانت تصله بشكل كامل، أو إن كانت تصله من الأساس.
بقي وليد مواظبا على إرسال 120 دينار أردني (190 دولار أميركي تقريبا) كل شهر لوالده، وفي إحدى المرات أرسل 1500 دولار.
شارك وليد مع بلينكس تسجيلات صوتية من العائلة السورية التي كانت تتواصل مع والده داخل السجن وكذلك صور إيصالات التحويلات الشهرية. العائلة السورية في إحدى الرسائل الصوتية قالت إن إبراهيم يريد مالا يعطيه لشخص يسّل خروجه من السجن، وبالفعل لبى وليد نداء أبيه لكن دون جدوى.
في إحدى السنوات التي لم تعد تذكرها العائلة ولكنها رجحت أنها بعد 2015 تمكن إبراهيم من تسريب رسالة من داخل السجن، ولم تعرف العائلة وقتها أنه كان ما زال في صيدنايا أم نقل إلى سجن آخر، وحصلت بلينكس على نسخة من الرسالة تظهر كلام إبراهيم الذي حاول الاطمئنان على العائلة ولم يعرف أن والده وأحد أبنائه قد فارقوا الحياة.
الخروج في 2024
تفاجأت عائلة فريحات في جنين صباح 8 تشرين الثاني باتصال هاتفي من شاب في محافظة درعا يقول لهم إن والدهم خرج من معتقل “عدرا” في دمشق، وأن عائلته تستضيفه حاليا في درعا، إلى حين فتح الحدود الأردنية ليدخل إلى هناك.
في أول اتصال عبر تطبيق “ماسنجر فيسبوك” بين إبراهيم فريحات وعائلته بعد تحرره، قال: “الحمد لله، كنت أعرف أن الفرج قريب”. ظل إبراهيم ينتظر فتح الحدود مع الأردن حتى 10 نوفمبر، حيث عبر الحدود وأنهى إجراءاته الأمنية، قبل أن يلتقي وفدا من الإنتربول، الذي جلس معه وحصل على إفادته.
انطلق إبراهيم إلى أقربائه في الأردن ووصل إليهم بعد 17 سنة من الاختفاء، نزل من السيارة حاملا كيسا فيه ملابس، مع سيجارة مشتعلة يتطاير منها الدخان واحتضن شقيقه الذي يسكن في الأردن.
يقول وليد لبلينكس: “الحمد لله أبي خرج من السجن وأنا متخوف من التفاصيل التي سيحكيها لنا عن صيدنايا وعدرا عندما نلتقي به في فلسطين”.
لم يتمكن إبراهيم حاليا من العودة لفلسطين، حتى يتمم إجراءات إصدار هوية أردنية جديدة وجواز أردني جديد ثم هوية فلسطينية جديدة، حتى يستطيع عبور جسر الملك حسين نحو الضفة، ويعود إلى جنين بعد سنوات قضاها خلف مقود التاكسي في الأردن، و17 سنة خلف قضبان سجون النظام السوري السابق. (بلينكس – blinx)