أقرّ مجلس النواب مشروع قانون رفع السريّة المصرفيّة، في توقيت مشاركة الوفد اللبناني في اجتماعات صندوق النقد الدولي في واشنطن، في عجلة تشريعيّة ليست بعيدة عن محاولة استرضاء المجتمع الدولي. فهل أقّر لبنان قانونًا قابلًا للتطبيق؟ وهل تحول ثغراته دون تحقيق الغاية منه؟
المحامي البروفسور نصري انطوان دياب يقرأ عبر “لبنان 24” في التعديلات التي شملها القانون بنسخته الأخيرة، من توسيع دائرة الجهات المخوّلة رفع السريّة المصرفيّة إلى المفعول الرجعي، وحق المتضررين بالاعتراض، مع منح قضاء العجلة إمكانيّة وقف التنفيذ.فقد اعتبر أنّ التعديلات بدت متماشية مع مطلب الجهات الدولية، بدليل الأصداء الإيجابية من قبل القييمين على صندوق النقد الدولي، لجهة ارتياحهم إلى النص التشريعي الأخير.
عدّل القانون الجديد الفقرتين (هـ) و(و) من المادة 7 من القانون المتعلّق بسرية المصارف تاريخ 1956/9/3 واللتين كان قد تمّ ادخالهما على هذا القانون بموجب القانون رقم 30 تاريخ 2022/11/8، وأيضاً المادة 150 من قانون النقد والتسليف تاريخ 1963/8/1 المعدّل بموجب القانون رقم 30 تاريخ 2022/11/8.
وفق التعديلات الجديدة، تمّ توسيع دائرة الجهات المخوّلة رفع السريةّ المصرفيّة في إطار المادة 150، بحيث أُتيح رفع السريّة لصالح شركات التدقيق التي يكلّفها مصرف لبنان أو لجنة الرقابة على المصارف، للحصول على المعلومات المصرفيّة سواء في إطار العمل الرقابي أو لتنفيذ أيّ دور آخر، من دون أن يرتبط طلب المعلومات بأيّ هدف معيّن. كما منح القانون إمكانية التدقيق في الحسابات بالأسماء وليس بالأرقام فقط.
البروفسور دياب قرأ بإيجابية توسيع مروحة الجهات التي أعطيت صلاحية رفع السرية المصرفية، مع إضافة المدقّيين والمقيّمين الخارجيين، “بالتالي بات بإمكان أيّ جهة رسمية الولوج إلى الحسابات بأقل الحدود والقيود الممكنة. كما سمح التعديل الأخير بالدخول إلى حسابات الأشخاص مع أسمائهم. من هنا أرى أنّ القانون بصيغته الحالية بات واسعًا وشاملاً”.
الإعتراض ثغرة توقف التنفيذ؟
لم تستجب التعديلات لما اعتبرته بعض الجهات القانونية في العام 2022 بأنّه ثغرة، تمثّلت بالسماح للمتضررين بالاعتراض أمام قاضي الأمور المستعجلة على طلبات المعلومات المصرفيّة، المقدّمة من قبل الهيئات الرقابية، ومن شأن الاعتراض أن يوقف التنفيذ، مما يحول دون فعالية أيّ رقابة. حيال هذا البند لفت البروفسور دياب إلى أنّ حقّ اللجوء الى القضاء هو حقّ أساسي Droit fondamental وأنّ وقف التنفيذ معمول به بشكل اعتيادي في قانون أصول المحاكمات المدنيّة أمام محاكم الدرجة الأولى والاستئناف والتمييز. ويرى دياب وجوب إبقاء هذه الصلاحيّة لقاضي الأمور المستعجلة “صحيح أنّ الاعتراض يبطىء سرعة التنفيذ، ولكن لا يجب أن تشكّل السرعة بابًا للمس بالحقوق والمصالح المشروعة”.
المفعول الرجعي مخالف للدستور؟
خلق المفعول الرجعي لعشر سنوات ارباكًا في تفسير احتسابه، حول ما إذا كان يسري من التعديل الأخير عام 2025، أم من التعديل الذي سبقه عام 2022. في السياق لفت البروفسور دياب إلى أنّ الأثر الرجعي يعود إلى العام 2015 كون القانون الجديد يحدّد صراحة “من تاريخ صدور هذا القانون”، أي أنّ احتسابه ينطلق من القانون بنسخته الأخيرة الصادرة في نيسان 2025. في سياق آخر رأى أنّ مبدأ المفعول الرجعي، بصرف النظر عن مداه الزمني، يخلق إشكاليّة، كونه يقوم على نزع الحقّ الذي كان يتمتع به العميل المصرفي بموجب القانون، عندما أودع أمواله في المصارف قبل عشر سنوات. “كرجل قانون أرى أنّه إجراء غير مستحب قد يرتقي وفق توصيف البعض إلى الأداء الهجين، وإن كنت أتفهّم ظروفه الاستثنائيّة اليوم. بالمقابل لا أوافق على مقولة أنّ المفعول الرجعي يتعارض مع أحكام الدستور. ففي كلّ بلدان العالم تعتمد القوانين المفعول الرجعي في حالات استثنائيّة من أجل المصلحة العامة والانتظام العام، وهذا غير منازع فيه”.
مصير لجنة البتّ بالطلبات
يعتبر البعض ان هناك حلقة بقيت ناقصة، وهي اللجنة التي ستبتّ بالطلبات المقدّمة إليها، وذلك بعد رفع السرّية المصرفية من قِبل لجنة الرقابة على المصارف للتدقيق بجميع الحسابات، تمهيداً لتصنيفها بين ودائع مؤهّلة للحماية والاسترداد وغير مؤهلّة، بحيث لم يتطرق القانون إلى هذه اللجنة التي يفترض أن تكن مختصّة ومستقلة لتتمكن من القيام بمهمة التقييم والتدقيق بكل شفافيّة وصدقية.
في هذا السياق أوضح دياب أن ذلك منوط بإقرار قانون تصحيح وضع المصارف وقانون إعادة التوازن المالي “إذ لا بدّ أن يشتملا على تأليف هيئة مستقلة، في حين أنّ قانون السرية المصرفيّة يمثّل إحدى الأدوات لتصحيح وضع المصارف ولإعادة التوازن المالي، ومن شأنّه أن يشكّل مع القوانين الأخرى آلية متكاملة. فلم يكن بالتالي حاجة لإنشاء لجنة خاصّة في قانون السريّة المصرفيّة”.
العودة لمجلس الوزراء
عدّلت الهيئة العامة للمجلس النيابي المادة 150 كما أقرّتها اللجان المشتركة، لجهة حذف صلاحية وزير الماليّة في إصدار القرارات اللازمة لتنظيم كيفية حصول الهيئات المختصة على هذه المعلومات عند الاقتضاء، ومنحت هذه الصلاحية بمراسيم تتخذّ في مجلس الوزراء بناء على اقتراح وزير المالية بعد أخذ رأي المصرف المركزي، مما يحدّ من إمكانية انفراد وزير المالية في فرض ضوابط معينة.
لبنان يقضي على ميزة نظامه المصرفي: نقمة أم نعمة؟
إعتبر البعض أنّ بالغاء السريّة المصرفية التي شكّلت على مدى عقود إحدى أبرز ميزاته وجذبت الأموال إلى نظامه المصرفي، قضى لبنان على ميزة نظامه المصرفي. لكن البروفسور دياب يعتبر “أنّ ما كان ميزة في العام 1956 لم يعد كذلك اليوم، لا بل بات مرتعاً للشبهات، خصوصًا أنّ الاتجاه في كلّ بلدان العالم هو إلى نظام مصرفي سليم خالٍ من السرية المصرفيّة، حتّى أنّ سويسرا المركز المالي الأكثر سريّة في العالم عمدت إلى إلغاء السرية المصرفية”.
تبقى العبرة في كيفية التطبيق، وفي إتمام المنظومة التشريعية المتكاملة إلى جانب إقرار قانون السرية المصرفيّة، إذ أنّ النظام التشريعي اللبناني متخم بعشرات القوانين الصادرة وغير المطبّقة على أرض الواقع.