حملت زيارة الموفد الأميركي الخاص بالملف السوري توماس باراك إلى بيروت في طياتها مؤشرات واضحة عن التوجهات الأميركية المقبلة تجاه لبنان والمنطقة، في لحظة سياسية وميدانية بالغة الدقة، يترقب فيها لبنان مآلات الحرب المتصاعدة بين إسرائيل وإيران.
لقد وصل باراك إلى بيروت في ظل مناخ مشحون بالخوف من احتمال توسع النزاع الدائر في المنطقة إلى الساحة اللبنانية، وهو ما بدا حاضراً في مضمون لقاءاته مع كبار المسؤولين، من رئيس الجمهورية العماد جوزاف عون، إلى رئيس مجلس النواب نبيه بري، وصولاً إلى رئيس الحكومة نواف سلام. فهذه الزيارة، التي توصف بأنها الأولى لمبعوث أميركي يحمل ملفين متلازمين: السوري واللبناني، جاءت لتضع النقاط على الحروف في جملة قضايا ، أبرزها مصير سلاح “حزب الله”، ومستقبل العلاقة بين بيروت ودمشق، ودور الجيش في الجنوب، وحدود الانخراط الأميركي في لجم التصعيد الإسرائيلي.
في بعبدا، كانت أولى الرسائل العلنية مع إعلان الرئيس عون عن رفع عديد الجيش اللبناني المنتشر جنوب الليطاني إلى عشرة آلاف جندي، في خطوة هدفت إلى التأكيد على قدرة الدولة على بسط سلطتها في هذه المنطقة الحساسة، بالتوازي مع مطالبته بتنفيذ القرار الدولي 1701 الذي لا يزال ناقص التطبيق بسبب استمرار الاحتلال الإسرائيلي. هذا القرار، وإن جاء بمباركة أميركية عبّر عنها باراك، لم يخل من الإيحاءات الضمنية بضرورة حصر السلاح بيد الدولة اللبنانية وحدها، وهو الشرط الذي شدد عليه الموفد الأميركي بوضوح، معتبرا أن أي وجود مسلح خارج المؤسسات الشرعية، في إشارة إلى حزب الله، يهدد بتفجير الوضع الداخلي، وربما جر البلاد إلى مواجهة واسعة لا يريدها أحد.
لكن كان لافتا تركيز باراك على الملف السوري، حيث كشف، بحسب مصادر مطلعة، للمسؤولين اللبنانيين أن مهمته تشمل متابعة القضايا العالقة مع دمشق، وعلى رأسها مسألة ترسيم الحدود وضبطها، ومعالجة ملف النازحين السوريين. وأكثر من ذلك، لفت باراك إلى أنّ رؤية الرئيس الأميركي دونالد ترامب تتمثل في نسج علاقات جديدة وجيدة بين لبنان وسوريا، تقوم على التعاون الاقتصادي والتبادل التجاري بدلا من الصراعات المزمنة التي فرضتها التدخلات الخارجية. هذه الرؤية، وإن بدت طموحة، فهي تصطدم، بحسب المصادر، بوقائع ميدانية وسياسية معقدة، لا سيما في ظل تعثر مسارات التفاهم بين بيروت ودمشق، واستمرار الانقسام الداخلي حول العلاقة مع النظام السوري الحالي الذي قد يتجه إلى التطبيع مع العدو الاسرائيلي.
وفي عين التينة، بدا موقف باراك أكثر صراحة حين حذر من أن أي قرار من حزب الله بالتدخل عسكرياً في حال توسع الحرب بين إسرائيل وإيران سيكون خياراً كارثياً ، مع ما يحمله ذلك من تهديدات مباشرة للأمن اللبناني. إلا أن المبعوث الأميركي لم يقدم حلولا ملموسة لمعضلة الخروقات الإسرائيلية المتكررة للأراضي اللبنانية، مكتفيا بالقول إن “الأمر معقد ويحتاج إلى وقت”، ما يبقي هذا الملف معلقا في خانة المراوحة.أما بري فأعاد من جهته التذكير بالتزام لبنان بتنفيذ القرار 1701، مشددا على الدور الحيوي لقوات اليونيفيل في حفظ الاستقرار، مع دعوة واشنطن إلى ممارسة ضغوط حقيقية على إسرائيل لتنفيذ انسحاب كامل من الأراضي اللبنانية المحتلة، كمدخل لأي تسوية جديّة.
الموقف الحكومي كان أكثر حذرا، إذ أكد الرئيس نواف سلام تمسّك بيروت بسياسة النأي بالنفس ورفض الانجرار إلى صراعات المحاور، مع الحرص على استكمال مسار الإصلاحات الداخلية، وتحقيق السيادة الكاملة على الأراضي اللبنانية، بالتوازي مع مطالبة الولايات المتحدة بلعب دور أكثر فاعلية في إلزام إسرائيل بتطبيق قرارات الشرعية الدولية.
رسائل باراك إلى المسؤولين اللبنانيين لم تخل، بحسب المصادر، من الدعم المعلن للدولة وجيشها ومؤسساتها، لكنها بدت مثقلة بشروط واضحة تتعلق بوضع سلاح حزب الله، الذي يبقى العائق الأساسي أمام أي تسوية شاملة من وجهة النظر الأميركية. في المقابل، لم يقدم المبعوث الأميركي التزامات ملموسة في ملف اليونيفيل وفي مسألة ضبط إسرائيل أو ضمان وقف خروقاتها اليومية، ما يعكس استمرار المقاربة المزدوجة لواشنطن حيال لبنان.
وسط هذه الرسائل المتباينة، وبينما يزداد الضغط الأميركي لحصر السلاح بيد الدولة، تبدو المخاطر الإسرائيلية المتصاعدة بلا ضوابط أو ضمانات فعلية، وهو ما يجعل هامش المناورة ضيقا وخطر الانزلاق إلى الحرب حاضراً في كل لحظة.
وعليه يمكن قراءة زيارة توماس باراك كحلقة جديدة في سلسلة الضغوط الأميركية على بيروت، في ظل أزمة إقليمية مفتوحة على كل الاحتمالات، علماً أن تعيين بديل للمبعوثة السابقة مورغان أورتاغوس سيؤجل إلى الخريف، ما يعكس رهان واشنطن على دور مزدوج لباراك في المرحلة الراهنة، يجمع بين مساري بيروت ودمشق.