لبنان إلى ثلاجة الانتظار مرّة جديدة

27 يونيو 2025
لبنان إلى ثلاجة الانتظار مرّة جديدة


قبل شهرين من الآن أتيت إلى حيث الحنين الدائم، إلى الوطن الساكن في القلب إلى الأبد؛ وبعد أيام من وصولي، لم أسمع من الأهل والأصدقاء والمقربين سوى سؤال واحد: كيف شفتلنا لبنان؟ في حينه لم أجب، واستمهلت السائلين بضعة أيام، وذلك لكي يكون جوابي مقنعًا لهم ولي. وبعد أيام أعاد السائلون السؤال ذاته، لكن هذه المرّة كانت قد تكّونت لدي فكرة عمّا سأجيب. وكان جوابي مبنيًّا على قناعة لمستها من خلال مشاهداتي على مدى الأيام الأولى، وليس نتيجة بعض العواطف، التي تصاحب عادة كل عائد إلى وطنه الأمّ لدواعٍ كثيرة ومتعدّدة.








وقد تضمّن جوابي مقارنة بين هذه الزيارة وزيارتي السابقة قبل سنتين. قلت لسائلي: الفرق كبير بين اليوم والأمس. وهذا الفرق بالطبع هو بسبب أن للبنان اليوم رئيسًا، فيما كان قبل سنتين يغرق في فوضى الفراغ القاتل، وأن لهذا الرئيس مواقف أقلّ ما يُقال فيها بأنها “سيادية” بامتياز، ولكن ليس على طريقة المفهوم النسبي لكلمة “سيادة”، التي تختلف تفسيراتها بين فريق سياسي وآخر. فكلمة “سيادة” بالنسبة إلى الرئيس جوزاف عون كانت تعني أن لا سلطة فوق سلطة الدولة، وأن لا شرعية تعلو على شرعيتها، أيًّا تكن “شرعية” الذين يعتقدون أنهم من حماة لبنان من خلال سلاحهم.

هذا الانطباع عزّزته المواقف المتتالية للرئيس عون، الذي ذكّر اللبنانيين أو قسمًا منهم برجال الدولة الكبار. لا مساومات، لا صفقات، لا مسايرات، لا مواقف “مايعة”، لا تراجع عن خطاب القسم، لا تهاون مع جميع الذين يجسرون على اعتبار أن “حائط الدولة واطيًا”، لا لأي سلاح غير السلاح الشرعي، لا للفساد والفاسدين والمفسدين، لا لسياسة “غطّيني حتى غطّيك”، لا لتغطية أي متطاول على حقوق الدولة والمواطنين.

نعم لدولة القانون، نعم لدولة العدالة الاجتماعية، نعم للإصلاحات المالية، نعم لإعادة أموال المودعين، نعم لقيام دولة الحقّ والقانون، نعم لخطة تعافٍ اقتصادي ومالي، نعم لإعطاء كل ذي حقّ حقّه، نعم لقانون عصري للانتخابات النيابية والبلدية، نعم لإصلاح القضاء، نعم للإنماء المتوازن، نعم لدولة لا صيف وشتاء على سقف واحد.

هذا ما كونّته بعد متابعاتي اليومية للحركة الرئاسية، ولكن وقبل أن تندلع الحرب بين إسرائيل وإيران. وكان اللبنانيون بين الحربين الاسرائيليتين المتواصلتين لا يزالون يأملون في أن يلقى ما وعدهم به الرئيس عون من عناوين جاذبة ترجمة عملية لو لم تسرِ موجة من “التشاؤل” كالنار في الهشيم، وأنقلب المزاج الشعبي من حال إلى أخرى من دون سابق إنذار، خصوصًا أن ما حلموا به من وعود قد تبخّرت بمجرد دخول الحرب الإسرائيلية – الإيرانية في نفق مظلم، قبل أن يفرض الرئيس الأميركي دونالد ترامب على الدولتين المتصارعتين وقفًا غير مشروط لإطلاق النار، وتراجع الحديث عن فكرة تسليم “حزب الله” لسلاحه إلى الدولة ليحّل مكانه حديث آخر، مع العلم أن أغلبية اللبنانيين يرون أن تسليم هذا السلاح، وكذلك السلاح الفلسطيني من داخل المخيمات وخارجها، هو الحلّ الذي لا حلّ سواه لبدء عملية استعادة الدولة لقرار السلم والحرب، ولسائر الحلول الأخرى، سياسيًا واقتصاديًا وأمنيًا واجتماعيًا، التي ستبقى موضوعة في ثلاجة الانتظار ريثما يتمّ التوصّل إلى انتاج تسوية عقلانية لهذا السلاح، الذي رأى فيه البعض أنه لم يقدّم ولم يؤخّر في ما سُمّي توازن الردع.

فما بين الشعارات الرنّانة، وهي شعارات لا غبار عليها، وبين الواقع فرق كبير. وهذا ما يدعو اللبنانيين إلى القلق المتواصل، وإلى عدم الاطمئنان والحذر المترافق مع كل بارقة أمل تلوح في أفق الأزمات، التي لا نهاية لها.

وهذا الأمل المتلاشي بدأ يتنامى من حيث الشعور بأنه لم يحن وقت الحلول الكبرى بالنسبة إلى لبنان، وأن الاهتمام الدولي يتحوّل تباعا إلى دول أخرى، ومن بينها سوريا الآخذة في الانفتاح على العالم، على رغم مأساة تفجير كنيسة مار الياس.