لكن في المقابل، لا تزال المعادلة الداخلية مرتبكة، والدولة اللبنانية عاجزة حتى اللحظة عن اتخاذ قرار جامع، بينما الحزب يلوح بخيارات بديلة لبقاء سلاحه، من بينها التحول نحو الحدود الشرقية مع سوريا بدلا من الجنوب، في خطوة تقرأها واشنطن وبعض الأطراف بأنها محاولة لتثبيت موقعه في المشهد اللبناني بالقوة.
لا تترك الورقة الأميركية التي حملها توماس باراك إلى بيروت، مجالا للغموض، فهي تتضمن خطة من مراحل زمنية متدرجة لتسليم حزب الله سلاحه بالكامل، على أن يُستكمل ذلك في تشرين الثاني المقبل.
مقابل ذلك، تتوقف إسرائيل عن استهداف عناصر الحزب عسكريًا، وتُفرج واشنطن عن أموال إعادة إعمار المناطق المدمّرة جنوبًا، وتُشرف على إطلاق الأسرى المرتبطين بالحزب.
كما تدعو الخريطة إلى تحسين العلاقات مع سوريا، وإجراء إصلاحات مالية لبنانية جذرية، الأمر الذي يشير إلى ربط المسار العسكري السياسي في الداخل اللبناني بمصير شبكة علاقاته الإقليمية.
ولم تُثمر الاجتماعات في قصر بعبدا بين ممثلي الرئاسات الثلاث حتى الآن عن موقف واضح.
من جانبه، أكد رئيس الحكومة نواف سلام ضرورة “حصر السلاح بيد الدولة”، لكنه اصطدم بجدار مواقف غير حاسمة، إن لم تكن معرقلة، من قِبل قوى سياسية تتحالف أو تتقاطع مع “حزب الله”.
ولخص الخبير العسكري والاستراتيجي العميد المتقاعد خالد حمادة هذا التخبط بقوله: “القرار لا يجب أن يبقى رهينة لجنة ثلاثية؛ إنه من اختصاص الحكومة، وإذا لم تُتخذ خطوات تنفيذية الآن، سنبقى ندور في حلقة مفرغة”.
وحذر حمادة من أن “العدّ التنازلي بدأ فعلا منذ توقيع وقف إطلاق النار الأخير”، مشيرًا إلى أن واشنطن لن تنتظر طويلًا قبل اتخاذ خطوات منفردة.
وواحدة من أبرز المعضلات التي تواجه “حزب الله” هي فقدانه المتسارع للشرعية الرمزية التي طالما استند إليها لتبرير احتفاظه بسلاحه. آخر هذه الضربات جاءت من داخل البيت الدرزي، حين أعلن وليد جنبلاط أن “مزارع شبعا سورية”، ناسفًا بذلك حجر الزاوية في خطاب الحزب المقاوم.
تؤكد تقارير إسرائيلية، أبرزها من القناة الثانية عشرة، أن هناك اتجاها لدى تل أبيب للاعتراف رسميًا بأن مزارع شبعا سورية، ضمن اتفاق متوقع مع سوريا يتضمن تنسيقا استخباراتيا أمنيا بين الجانبين، في إطار معركة مشتركة ضد الحزب وإيران. هذا يعني باختصار، أن مبرر “المقاومة لتحرير الأرض المحتلة” يفقد آخر أنفاسه.
وفي ظل هذه المتغيرات، تروج مصادر عن احتمال أن يعيد “حزب الله” تموضعه نحو الحدود الشرقية مع سوريا، بذريعة مواجهة “أي تطرف يأتي من الأراضي السورية”. وهو ما اعتبره العميد حمادة محاولة فاشلة لكسب وقت إضافي: “الجيش لديه القدرة على الانتشار وضبط الحدود. حزب الله ليس مفوضًا بالدفاع عن لبنان أو مراقبة حدوده، هذا دور الدولة فقط”.
وأكد حمادة أن مقولة “الجيش لا يستطيع نزع سلاح حزب الله لأن ذلك قد يؤدي إلى حرب أهلية” هي “كلام بلا قيمة”.
وأضاف: “الحكومة تمثل كل اللبنانيين، والجيش يمتلك شرعية دولية ودستورية. ليس على الجيش أن يشتبك، بل أن يفرض الأمن عبر مناطق عسكرية مقفلة بالتنسيق مع الدولة، وهذا ما لن يجرؤ الحزب على منعه”.
بل ويذهب إلى أبعد من ذلك حين يشير إلى أن الحزب نفسه غير متماسك داخليا، مستشهدا بالاشتباكات الأخيرة داخل الضاحية بين عشيرتين شيعيتين: “إذا كانت بيئة الحزب نفسها غير مستقرة، فكيف له أن يهدد أمن البلد؟”.
وشدد حمادة على أن الوقت قد حان لنقل هذا الملف الحاسم من دهاليز اللجان والتسويات إلى مجلس الوزراء: “ليس هناك لجنة ثلاثية يمكنها أن تحل محل السلطة التنفيذية. مجلس الوزراء هو صاحب القرار، وما يصدر عنه يوقّعه رئيس الجمهورية ويصبح قرارًا سياديا”.
وأكد أن الدستور اللبناني يضع مسألة السلم والحرب تحت سلطة الحكومة، وليس بيد أي جهة سياسية أو مسلحة.