لا تزال الوساطة الأميركية التي يقودها الموفد الرئاسي توم براك، والتي عادت مورغان أورتاغوس لتنشط على خطها، في صدارة المشهد، بعد زيارة قام بها المبعوث الأميركي إلى تل أبيب، يعود بعدها إلى بيروت، ليواصل اتصالاته، على وقع حراك دبلوماسي لافت، تعكّر صفوه الخروقات الإسرائيلية المستمرّة لاتفاق وقف إطلاق النار، بوتيرة شهدت تكثيفًا خلال الأيام القليلة الماضية.
Advertisement
]]>
فبعد محطته البيروتية التي سعى من خلالها إلى تثبيت التزامات لبنانية واضحة تجاه مسألة السلاح وحصرية دور الجيش، انتقل براك إلى تل أبيب في زيارة وصفت بأنها “حاسمة” في تحديد اتجاه الوساطة الأميركية، حيث أراد الرجل أن ينقل إلى القيادة الإسرائيلية ضرورة التجاوب بخطوات مقابلة، سواء عبر تهدئة الغارات أو الدخول في مفاوضات أكثر وضوحًا بشأن وقف طويل الأمد للنار.
إلا أنّ المؤشّرات والمعطيات التي تمّ تداولها في الساعات الماضية لم توحِ بانفراجة حقيقيّة، أو برغبة إسرائيل فعلاً بوقف الاعتداءات، وبالتالي إنجاز تقدّم على خط تهيئة الظروف المناسبة لوقف النار، ما من شأنه إعطاء الوساطة الأميركية دفعة عملية يمكن البناء عليها، فما الذي يحمله هذا المسار الجديد؟ وأين يقف لبنان وسط توازنات معقدة تحكمها الضغوط الإقليمية والحسابات الداخلية؟
مناخ الوساطة الأميركية
يبدو أن واشنطن اختارت العودة إلى أسلوب “الوسيط النشط”، على غرار ما حصل في ملف ترسيم الحدود البحرية. لكن هذه المرة، المسألة أكثر تعقيدًا، إذ تتعلق بترتيبات أمنية وعسكرية حساسة، وفي قلبها دور حزب الله ومستقبل المواجهة مع إسرائيل، علمًا أنّ المعلومات تشير إلى أن الإدارة الأميركية تعمل على تشكيل مجموعات عمل متخصصة، تُعنى بتفاصيل متعددة تشمل الحدود، السلاح، ودور القوات الدولية، في محاولة لتفكيك الألغام خطوة خطوة.
وفي حين يرى العارفون أنّ هذا الأمر يعكس تصميمًا أميركيًا على تحويل الوساطة إلى مسار متدرج، لا إلى مبادرة سريعة عابرة، يقرأ المسؤولون في الداخل اللبناني ببرودة أعصاب ما يجري. فالحكومة كانت قد أقرّت خططًا تعزز حصرية السلاح بيد الجيش، وهو ما استُقبل أميركيًا باعتباره “خطوة إيجابية”. لكن في الوقت نفسه، تبقى الضمانات غائبة: ماذا لو لم تلتزم إسرائيل بالتهدئة؟ وماذا لو استُدرج لبنان إلى مواجهة جديدة؟
حزب الله من جانبه لا يظهر أي استعداد للتخلي عن معادلاته، حيث يؤكد نوابه وكبار قيادييه أنه متمسك بسلاحه وبالمعادلة القائمة على الردع، ولن ينجرّ إلى اتفاق يحدّ من دوره مقابل وعود غامضة. وهذا ما يفسر التباين في النظرة اللبنانية: فريق حكومي يعتبر أن الانخراط في الوساطة يفتح نافذة دولية يمكن استثمارها، فيما يصر الحزب على أن أي تفاوض يجب أن يتم من موقع قوة، لا ضعف.
البعد الإقليمي للوساطة
على الجانب الإسرائيلي، لا تزال الصورة غير واضحة، فالحكومة الإسرائيلية تدرك أن الأميركيين يسعون إلى ترتيب طويل الأمد، لكنها تشكك في قدرة الدولة اللبنانية على فرض سيطرة كاملة على الجنوب. وفي المقابل، يرى بعض المحللين في تل أبيب أن الاستجابة للوساطة قد تكون مصلحة إسرائيلية، لأنها تتيح التركيز على الجبهة الداخلية المأزومة وعلى ملفات أخرى إقليمية، وفي مقدمتها التوتر مع إيران.
عمومًا، لا يمكن عزل الوساطة الأميركية عن السياق الإقليمي الأوسع. فالولايات المتحدة تريد أن تثبت حضورها في منطقة باتت تشهد تحولات كبرى مع دخول لاعبين آخرين على الخط، من روسيا إلى الصين. كما تسعى إلى منع انزلاق الجبهة اللبنانية – الإسرائيلية إلى مواجهة شاملة قد تخلط أوراق المنطقة. وبالتالي، فإن زيارة براك إلى تل أبيب ليست مجرد جولة تفاوضية، بل هي محاولة لقياس مدى استعداد إسرائيل للتجاوب مع الترتيبات الأميركية، ولإظهار أن واشنطن ما زالت تمسك بخيوط اللعبة في المشرق.
من هنا، يمكن القول إن زيارة المبعوث الأميركي توم براك إلى تل أبيب تشكل اختبارًا مزدوجًا، إن صحّ التعبير: من ناحية، اختبار لقدرة الوساطة الأميركية على تحقيق اختراق في ملف شديد التعقيد، خصوصًا مع فشل اتفاق وقف إطلاق النار، باعتراف براك نفسه، ومن ناحية ثانية، اختبار لمدى استعداد الأطراف اللبنانية والإسرائيلية على حد سواء للانخراط في تسوية واقعية، تُراعي موازين القوى من دون أن تتجاهل هواجس الأمن والسيادة.
في المحصّلة، يحاول لبنان الرسمي أن يلتقط أنفاسه وسط العواصف، مراهناً على أن الحراك الأميركي قد يفتح له متنفسًا سياسيًا واقتصاديًا، على الرغم من هواجس الانقسام التي أيقظها النقاش حول سلاح “حزب الله”. أما إسرائيل، فتوازن بين حسابات الأمن القومي وضغوط الداخل. وبين الاثنين، تقف واشنطن أمام امتحان حقيقي: إما أن تنجح في تثبيت هدنة قابلة للحياة، أو تعود الأزمة إلى دائرة التصعيد.