والحد الفاصل الذي كان يتحاشى الحاكم الدفاع عنه على الملأ، باستثناء استعمال بعض العبارات والتصريحات المقتضبة، انكشف بكل ما للوضوح من معنى عبر برنامج “صار الوقت” التلفزيوني مساء الخميس، الذي تحوّل إلى منبر لتبييض صورة سلامة، ومحاولة تأكيد براءته من هندسة النظام المالي والمصرفي الذي فَتَكَ بالبلاد.
سلامة يعلن الحرب
بَدَل حرصه على اختيار عبارات تراعي الظروف الصعبة التي تمر بها البلاد وسكانها ومؤسساتها، أصرّ سلامة على جعل نفسه طرفاً في الصراع بين المودعين الذين يريدون أموالهم وبين المصارف التي تحتجز الأموال، بسبب عجزها وقرب بعضها من الإفلاس. فتعليقاً على الإشكالات التي تقع بين المواطنين والمصارف، والتي سماها “الأعمال التخريبية” رأى سلامة أن “المصارف تتعاطى مع الزبائن بالطريقة التي تراها مناسبة. ومصرف لبنان سهّل عملية انتقال الزبون من مصرف إلى آخر”.
وهذا الكلام يعني إعطاء المصارف الضوء الأخضر في التعامل مع الزبائن بحسب مصلحتها هي. أما انتقال الزبون من مصرف إلى آخر، فلا يغيّر في الواقع شيئاً، لأن المصارف جميعها في أزمة واحدة. واذا كانت المصارف ستتعاطى بالطريقة التي تناسبها، فللزبائن الحق بالتعاطي مع المصارف بالطريقة التي تناسبهم، بما فيها اقتحام وتكسير وتخريب المصارف وإجبارها على دفع أموالهم.
صعَّدَ سلامة موقفه، معلناً أن “المصارف غير مجبرة على إعطاء الدولار للزبائن بل مجبرة على إعطاء الليرة”. وهنا، حسم سلامة بأن المصارف حرّةٌ من أي التزام تجاه الأموال المودعة بالدولار، إذ أعطاها الحق بتسليم المبالغ بالليرة، وبالتأكيد وفق سعر الصرف الذي حدده سلامة، أي 1515 ليرة للدولار. والحسم بالنسبة للمصارف، هو إشارة للمودعين بالحسم أيضاً، فسلامة بذلك الموقف، أعلن فتح المعركة رسمياً. أي تشريع نهب مال المودعين، إذا احتسبنا الفارق بين دولار السوق الذي وصل إلى 2300 ليرة، وسعر صرفه بالمصرف.
تناقض واضح
صعوبة الوضع الذي تمر به المصارف والوصيّ عليها، أوقعت الوصيّ في التناقضات. فلماذا تُعطى المصارف الحق بالتصرف كما تريد، وسط شح الدولار وامتناعها عن سليمه لأصحابه، وفي الوقت عينه تكون “الودائع في القطاع المصرفي مؤمنة والمركزي حاضر لتأمين السيولة للمصارف”؟. فهل المصارف ومن خلفها المركزي، تتعمد حجب السيولة من دون سبب؟
أيضاً، إن كانت الحياة على كوكب المصارف طبيعية، فما حاجة سلامة للتأكيد أنه “رغم كل ما حصل لا تزال هناك ثقة بالقطاع المصرفي اللبناني”؟. لكن مرة أخرى، تناسى سلامة أن لا ثقة في القطاع المصرفي، ليس على المستوى الداخلي فقط، وإنما على مستوى عالمي، لأن وكالة ستاندرد اند بورز S&P، خفّضت تصنيفاتها الائتمانية طويلة الأمد لثلاثة مصارف لبنانية كبرى، هي: “بنك عودة” و”بلوم بنك” و”بنك ميد” من “CCC” إلى “SD”. أي إلى ما قبل الانهيار بنقطة. كما ناقضت الوكالة كلام سلامة قبل النطق به، لأن حكمها على المصارف أتى بعد استخلاصها أن الأفراد غير قادرين على الوصول إلى ودائعهم المصرفية في الوقت المحدد وإلى قيمتها الكاملة. أي أن السيولة غير متوفرة والمصارف لا تعطي المودعين أموالهم.
إعلان البراءة
نُظّمَت الحلقة التلفزيونية لتعطي صك براءة للحاكم وقطاعه المصرفي، لكن الوقائع أكدت استحالة البراءة. ومع ذلك، رأى سلامة أن “مصرف لبنان غير مسؤول عن ديون الدولة وانما عن الاستقرار المصرفي”. لكن هذا الرأي يدل على أن الحاكم غير مدرك لارتباط الاقتصاد بالنقد، وغير مدرك لتأثير سياساته المالية، وسماحه بخروج أموال من مصرفه نحو دولة ساستها ينفقون مالها من دون حسيب أو رقيب. وبما ان الحاكم مسؤول عن سلامة النقد، فهو مسؤول عن عدم إهداره وفقدانه لقيمته وقوته، وبالتالي مسؤول عن الديون بصورة أو بأخرى. ناهيك عن مسؤوليته عن الديون بفعل رفع الفوائد المصرفية التي رفعت الفوائد على ديون الدولة، أي إن الحاكم مسؤول عن تكبيد الدولة خسائر كبيرة جراء فوائد ديونها.
وفي محاولة تبرئة نفسه، رمى سلامة مسؤولية تراجع السيولة بالدولار على المودعين، لأن “السيولة تراجعت أمام ضغط طلب المودعين”، لكنه لم يوضح سبب تهافت المودعين على سحب السيولة. والسبب بالطبع هو الخوف من احتجاز الأموال. وسلامة أكّد خوف الناس وصحة اجراءات سحب أموالهم، عبر اعطائه المصارف حق فعل ما تريد، وحق اعطاء الأموال بالليرة وليس بالدولار.
وتنصّل الحاكم أيضاً من مسؤوليته عن ضبط ارتفاع سعر الدولار، معتبراً أن “سوق الصيرفة خاضع للعرض والطلب”. أما الحل برأيه، فهو “عودة الثقة مع تشكيل الحكومة مع برنامج واضح”، فهذه الخطوة “ستعيد الأمور تدريجياً إلى طبيعتها”. أي ان الحاكم يضع الأزمة في الجانب السياسي فقط، ويُعفي الجانب النقدي.
جوعوا فالمصارف بخير
بعيداً عن المسؤوليات، فإن الواقع بات مغايراً لما عاشه اللبنانيون طيلة 30 عاماً من الهدوء. واليوم، يتحضر اللبنانيون لارتفاع معدلات الفقر، وباعتراف سلامة الذي أكد أن “الفقر سيزيد”، لكنه طمأن إلى أن “لا ثورة جياع”، كما أنه “لا إفلاس لأي مصرف ونحن نلبي السيولة المطلوبة للمصارف بالعملتين”. السيولة المطلوبة تُلبّى إذاً، والمودعون لا يأخذونها وهم على شفير الفقر، فأين تذهب السيولة، خاصة الدولار؟ الإجابة تكمن في كلام سلامة حول إقفال المصارف، فالأمور “كانت تسير بصعوبة وانما بشكل طبيعي وكان الاقتصاد يتحرك، ولكن بعد اقفال المصارف، تغيرت الأمور، وتحولنا من اقتصاد يتكل على المصارف إلى “اقتصاد الكاش” Cash Economy”. لكن حبّذا لو أكمَلَ سلامة بقية المشهد ليقول للناس لماذا حصل ذلك بعد اقفال المصارف؟ أليس بسبب تهريبها مليارات الدولارات إلى الخارج؟.
هنا نعود إلى محاولة تحميل الناس المسؤولية نتيجة سحبهم السيولة، ليتبيَّن أن السيولة التي هُرِّبَت إلى الخارج أكبر بكثير من السيولة التي حاول الناس حمايتها من التهريب. وهذا حق. فهل تُترَك الأموال لتخرج كما خرجت المليارات الثلاث فور استقالة رئيس الوزراء سعد الحريري، كما قال سلامة؟
الفقر الذي مرّ عليه سلامة مرور الكرام، هو جوهر القضية، فهو نتاج سياسات شارك سلامة بشقّها المالي والاقتصادي. وهو المحرّك الأكبر لانتفاضة 17 تشرين الأول التي وضعت الخطوة الأولى لعملية تغيير النمط السائد في إدارة البلاد. لذلك، من يريد رمي كرة النار في مكان ما، هو من يحاول التنصل من المسؤولية. والمسؤولية الحقيقية هنا، ليست الحفاظ على الهيكل الموجود، وانما ببناء وطن حقيقي وليس هيكلاً يسرح فيه الكهّان باسم إله المال فيما الشعب يزداد فقراً وجوعاً.
هذا ما لن يقرّ به رياض سلامة، طالما أنه هكذا كما ظهر على التلفزيون، مستخفاً بعقول الناس ومشاعرها.. وبلامبالاة قاسية.