الليرة مرفوضة والعتب مرفوع

19 أغسطس 2019
الليرة مرفوضة والعتب مرفوع

قرار الجامعة الأميركية في بيروت (AUB) بـ “وجوب دفع الطلاب المستحقات المالية إبتداءً من الفصل الدراسي المقبل بالدولار بدلاً من الليرة اللبنانية” فتح الباب عريضاً أمام معضلة “ندرة الدولار”، مقابل الحاجة الماسة اليه. بابٌ يحاول المسؤولون منذ فتره إبقاءه موصداً بإحكام لتمديد الثقة بالليرة لأطول فترة ممكنة، وعدم إثارة الهلع، والتصدي لتثبيته كنموذج. إلا أن المشكلة التي طفت على سطح صرح علمي، نتيجة نفخها من قبل طلاب أرهقتهم الأقساط والزيادات وارتفاع البدلات، ليست الأولى من نوعها، والأكيد أنها لن تكون الأخيرة في اقتصاد يتنفس الدولار. فخطوة “الأميركية” ستجر خلفها مئات الخطوات لمؤسسات وشركات لن تقبل التعامل إلا بالدولار.

ررت الـ (AUB) هذه الواقعة بانضمامها إلى التطبيق المشترك للقبول في حوالى 900 مؤسسة أميركية ودولية. وقد استهجنت الجامعة تفسير القرار من قبل البعض بشكل خاطئ، إذ إن الطلاب بوسعهم الدفع في أيّ عملة يريدونها، لأن تعاملهم هو مع المصارف وليس مع الإدارة. وهنا تبرز المشكلة في شقين رئيسيين، الأول هو عدم قبول المصارف، التي تلتزم سعر الصرف الرسمي المحدد من مصرف لبنان بين 1503 و1514 بإجراء عمليات تحويل العملة، وهو ما سيدفع الطلاب الذين يريدون الدفع بالليرة إلى تحويلها عند الصرافين بسعر 1530 أو حتى 1540 للدولار، الأمر الذي سيرتب عليهم زيادة تقدر بـ 130 دولاراً على كل 5 آلاف دولار يدفعها للقسط، أو بزيادة نسبتها 2.7 في المئة.

أما الشق الثاني فهو إرتفاع كلفة التعامل بالليرة في المؤسسات والشركات، وتحديداً تلك التي تتعامل مع الخارج، وإضطرارها إلى نقل هذه الكلفة إلى الزبائن سواء كانوا طلاباً أم مستهلكين أم متعاملين. وهذا ما برز أخيراً في قطاع النفط، حيث ترفض الشركات الموزعة التعامل بالليرة، وتجبر محطات الوقود على الدفع بالدولار، وهو ما يرفع الكلفة على أصحاب المحطات ويسبب إرباكا كبيراً. وقبل قرار “الأميركية” وشركات توزيع النفط، تستمر الشركتان الخلويتان alfa و touch باصدار فواتيرهما بالدولار الأميركي رغم كل الإعتراضات على هذه الممارسات غير “الوطنية”!

النتائج كارثية

بعيداً من الشعارات، فان فقدان السيولة بالدولار من السوق بدأ يفرض نفسه على كل المستويات، ويجبر المؤسسات على حصر معاملاتها بالعملة الصعبة، ضمانةً لحسن سير أعمالها من جهة، وتحسباً لسيناريو تغير سعر الصرف من جهة أخرى. فما نراه اليوم “ليس إلا رأس جبل الجليد”، يقول الخبير الإقتصادي غسان شماس، وهو يستدعي من المشترع، “إصدار قانون بشكل سريع يحصر المعاملات النقدية بالليرة اللبنانية، وإلا فإن النتائج التي ستترتب عن هذا السلوك ستكون مؤذية على الإقتصاد والمستهلكين”. وتنقسم النتائج بحسب شماس، إلى ثلاث، الأولى ستظهرعلى المدى القصير وتتمثل في زيادة الضغط على الليرة اللبنانية، وتحميل شريحة كبيرة من موظفي القطاع العام والمصارف وغيرهما الكثير من المؤسسات ممن يتقاضون رواتبهم بالليرة، المزيد من الأكلاف نتيجة اضطرارهم لتحويل الليرة إلى دولار عند الصرافين. والنتيجة الثانية ستكون على المدى المتوسط، وستؤدي إلى التشجيع وفتح الباب أمام عمليات تبييض الأموال، نتيجة الإرتفاع الكبير في المعاملات النقدية بالدولار. فالطلب على الدولار بيعاً وشراءً سيحفز المضاربين والمبيضين إلى “فلش” العملة الخضراء بالسوق على أوسع نطاق، بغض النظر عن المصدر. أما النتيجة الثالثة على المدى الطويل، فهي التضخم من خلال تثبيت عرف بيع الدولار فوق السعر الرسمي بكثير، أي كأن يصبح 1600 ليرة، وهو ما سيؤدي إلى فقدان العملة الوطنية لقيمتها الشرائية، وبالتالي إرتفاع أكلاف الإستهلاك وزيادة العبء على المواطنين”.

“العطش” على الدولار

يصل الدولار إلى لبنان من أربعة مصادر رئيسية: تحويلات المغتربين، وهي تراجعت من 9 الى 7 مليارات دولار، عائدات الصادرات، لا تتجاوز الـ 2 مليار دولار، والودائع الاجنبية في المصارف، والتي تشهد بدورها تراجعات ملحوظة. وعائدات السياحة، وهي لا تكفي مجتمعة لسد العجز في الميزان التجاري والذي فاق العام الماضي 18 مليار دولار. وعليه فان “العطش” على الدولار لسد عجز ميزان المدفوعات، وللإيفاء بالتزامات لبنان تجاه الخارج، ودفع فوائد الدين العام… سيرتب على السلطة النقدية اتباع المزيد من الاجراءات القاسية والضاغطة على الليرة والقطاعات الانتاجية والمستهلكين على السواء، وهو الامر الذي سيبقي الفوائد مرتفعة لفترة طويلة، ليست محدودة النهاية.

التخلي عن الإقتصاد بعد الأمن

“ما يجري من رفض بعض المؤسسات التعامل بالليرة اللبنانية هو تكريس لفكرة إنهيار الدولة وضرب هيبتها، وإنسحابها من ميدان أساسي يتعلق بالإقتصاد والنقد الوطني، بعد تخليها عن جزء من الأمن لمصلحة بعض الميليشيات”، يقول الباحث الإجتماعي أديب نعمه، مضيفاً: “هذه إشارة سلبية في ما يتعلق بكل النظام الإقتصادي، وتؤدي إلى انعدام الثقة بالمستقبل. فكل من سمع رفض هذه المؤسسات الكبيرة التعامل بالليرة سيعمد بالمقابل إلى رفضها، وتحويل ما يملك من ليرة إلى دولار”، وبحسب نعمي فإن “السياسات المتبعة مدمرة على الصعيدين الإقتصادي والإجتماعي، وهي تترافق مع زيادة الضرائب والرسوم في موازنة العام 2019. الأمر الذي سيدفع إلى زيادة المنافسة بين المصارف على رفع الفوائد لاستقطاب الدولار، والى استنزاف الإحتياطي الإلزامي بالعملات الصعبة. هذا وبدأ عبء هذه السياسات يظهر في المجتمع من خلال إقفال عشرات المؤسسات وتوقف المشاريع وارتفاع نسب البطالة وانخفاض القدرة الشرائية عند المواطنين”.

“يفترضون أنهم مسيطرون على الوضع، إنما الأمور ليست بالضرورة قابلة للضبط. فالنجاح الآني بالمحافظة على سعر الصرف وتمويل الإستحقاقات، يقابله نزف في إحتياطي الدولار. وعلى هذا المعدل سنصل إلى يوم تنفد فيه العملة الخضراء، وعندها تكون سياسة التضحية بالإقتصاد في سبيل المحافظة على الإستقرار باءت بالفشل”،قال نعمي.

 

المقالات والآراء المنشورة في الموقع والتعليقات على صفحات التواصل الاجتماعي بأسماء أصحـابها أو بأسماء مستعـارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لموقع بيروت نيوز بل تمثل وجهة نظر كاتبها، و”الموقع” غير مسؤول ولا يتحمل تبعات ما يكتب فيه من مواضيع أو تعليقات ويتحمل الكاتب كافة المسؤوليات التي تنتج عن ذلك.