الدولار متوفّر.. لكن بيد من؟

27 سبتمبر 2019
الدولار متوفّر.. لكن بيد من؟

كتب علي نور في “المدن”: من قطاع المحروقات إلى أصحاب المطاحن ومحلّات الاتصالات يتكرر السيناريو في ظل الأزمة نفسها: شح الدولار في الأسواق وارتفاع ثمنه لدى الصرّافين، وتقنين المصارف في تزويد الشركات به للإستيراد. تطوّرات تدفع الجميع إلى السؤال عن وضع السيولة بالعملة الصعبة اليوم في النظام المالي، خصوصاً أنّ ثمّة من قرأ في هذه الأحداث نفاداً لجميع الخيارات المتاحة لتوفير العملة الصعبة والحفاظ على سعر الصرف في السوق.

كم يبلغ إحتياطي العملات الأجنبيّة.. فعلاً؟
السؤال عن وضع السيولة يقودنا تلقائيّاً إلى الحديث عن إحتياطي مصرف لبنان من العملات الصعبة، التي تتكوّن إجمالاً من ودائع المصارف بالدولار الأميركي لديه، وهي التي تسمح لمصرف لبنان بالمناورة وتوفير الدولارات المطلوبة للأسواق من أجل الإستيراد. وفي آخر تصريحاته منذ أيام، أشار سلامة إلى أنّ موجودات مصرف لبنان بالدولار بلغت 38.5 مليار دولار، في إِشارة إلى توفّر العملة الصعبة في النظام المصرفي وعدم وجود ضرورة إلى أي إجراءات.

لكنّ ثمّة ما ينبغي الوقوف عنده في تصريح سلامة، فالرقم الكبير الذي أشار إليه لا يشكّل فعليّاً إحتياطي العملات الأجنبيّة، رغم أن تصريح سلامة يوحي بذلك. فما يتحدّث عنه سلامة يمثّل مجمل الموجودات الخارجيّة التي تضم –إلى جانب إحتياطي العملات الأجنبيّة المعروف- توظيفات أخرى في الأوراق الماليّة في الأسواق الخارجيّة. أمّا إحتياطي العملات الأجنبيّة وحده فبلغ حتّى شهر تمّوز الماضي 31 مليار دولار، حسب أرقام مصرف لبنان نفسه.

وحتّى بعد إحتساب إحتياطي العملات الأجنبيّة وحده، ورغم أن الإعلام غالباً ما يشير إلى هذا الإحتياطي بوصفه صمام الأمان خلال الأزمات، تملك وكالات التصنيف نظرة مختلفة تماماً. فوكالة ستاندرد آند بورز مثلاً، أشارت في تقريرها إلى أنّ هذا الإحتياطي لا يمثّل فعليّاً الإحتياطي القابل للإستخدام من قبل مصرف لبنان، كونه يشمل عناصر لا يمكن احتسابها كسيولة جاهزة للإستعمال مثل سندات اليوروبوند المملوكة من مصرف لبنان، أو الإحتياطي الإلزامي المفروض على المصارف وغيرها.

وإذا أردنا إتباع التمرين الذي قامت به الوكالة، تكون النتيجة توقّع وجود إحتياطي قابل للإستعمال بقيمة 19.2 مليار دولار في سنة 2019، مع العلم أنّ هذا الرقم يشمل أيضاً الذهب الموجود بحوزة المصرف المركزي. وفي النتيجة، مازال المصرف المركزي يملك قدرة محدودة على المناورة، من ناحية توفير السيولة بالعملة الأجنبيّة للأسواق، عكس ما يُشاع عن الوصول إلى مرحلة الإنهيار الكلّي، لكنّ الرقم الفعلي المتاح للإستعمال في هذا الإطار أقل بكثير من الأرقام المتفائلة التي تتداولها وسائل الإعلام والتصريحات عادةً.

التقشّف في توفير العملة الصعبة
إذاً، قدرة المصرف المركزي على التدخّل وتوفير الدولار مازالت موجودة، لكن في نطاق أضيق ولفترة أقصر، وهو ما يدفعه اليوم إلى التقشّف، ووضع سقوف على حجم عمليات شراء الدولار للمصارف، مع العلم أن المصارف تقوم بدورها بوضع سقوف لعمليات شراء الدولار للشركات المستوردة التي تتعامل معها. وهكذا وصلت الأمور إلى خلق شح في المعروض من الدولارات، خصوصاً بعد فرض قيود أخرى على بعض العمليّات مثل منع عمليّات شراء الدولار بالتوازي مع سحب أو إيداع الودائع، أو عبر الصرّاف الآلي وغيرها من العمليّات.

ومع تركيز المصرف المركزي على عمليات امتصاص السيولة بالعملة الصعبة من خلال الهندسات الماليّة، ذهبت شهيّة المصارف باتجاه عمليّات التسليف بالدولار، وهو ما خلق بدوره المزيد من شح العملة الصعبة في الأسواق. أمّا معدّلات الفوائد المتزايدة على الودائع، فساهمت بدورها بامتصاص الدولارات المتداولة في الأسوق باتجاه الودائع المصرفيّة المجمّدة، والتي وظّفتها المصارف في إطار الهندسات الماليّة نفسها، وهو ما دفع بالاتجاه نفسه: ندرة الدولارات.

تحوّل في نمط إدارة النقد
حاكم مصرف لبنان أعلن عن الاتجاه إلى تنظيم عمليّة توفير السيولة لاستيراد المحروقات والقمح والأدوية، إبتداءً من الأسبوع المقبل. في الواقع، يعني هذا القرار الخروج عن نمط إدارة سعر الصرف السائد منذ سنة 1993، والذي قام على تثبيت سعر الصرف بشكل شامل وكلّي في الأسواق. وفي المقابل، يعني الدخول في قائمة الدول المأزومة نقديّاً، والتي تملك أسعار صرف ثنائيّة: سعر صرف رسمي ثابت ومعتمد مصرفيّاً لدعم استيراد البضائع الحيويّة، وسعر صرف السوق الموازية التي تحدده آليات العرض والطلب. وهذا تحديداً ما مهّدت له الأيام الماضية، مع تذبذب سعر الصرف في السوق لدى الصرّافين بمستويات مرتفعة، قياساً بسعر الصرف المعتمد لدى المصارف، في ظل إجراءات مصرفيّة جديدة لمنع أي عمليات شراء للدولار يمكن أن تستعمل لتغذية السوق الموازية.

هذا التحوّل لا يعني بلوغ درجة الانهيار الشامل، بل يعني بلوغ الأزمة مرحلة متقدّمة جدّاً، فرضت إعادة النظر في أمور كانت تُعد من مقدّسات النظام النقدي اللبناني. وهذا التحوّل لا يعني نفاد الدولار من النظام المالي ولا انهيار هذا النظام، بل يعني تقنين استعمال العملة في ظل الضغوط الماليّة. وبالتالي، فالسؤال الفعلي لا يجب أن يدور حول توفّر الدولار في النظام المالي اللبناني، بل حول القدرة على الوصول إليه.