سورياليٌ هو لجوء ساسة لبنان إلى فتح التحقيقات، فهُم متعلّقون جداً بالملفّات. هل هي تَرِكة النظام البعثي؟ ربما. فبعض الملامح تشير إلى جذور التحقيقات البعثية، وأهمها محاولات إخفاء الفيل خلف الإبرة. لكن الساسة يحبون أيضاً تطوير قدراتهم ليثبتوا أن وجود النظام البعثي الذي تحكّم بإيقاع الفساد مع الأمن، ليس شرطاً من شروط الحياة، فحاوَلَ الساسة إدخال الفيل في خرم الإبرة، وسارعوا لتبرير ذلك بقواعد علمية من إبداع طائر الفينيق المُسدَّد بنصر إلهي.
سلامة لا يعرف
هو ركضٌ بلا جدوى في ممرٍ ضيّق، فيما السقف المشبع بالماء يوشك على الوقوع، إذ تقاطرَ الماء من كل اتجاهاته زمناً كافياً لتآكل الحديد والاسمنت. وما عادت الأوعية تحت السقف قادرة على احتواء المياه المتسرّبة. ما الحل؟ اجتمَع المهندسون وقرروا فتح تحقيق، فيما العائلة تنام تحت السقف.
ليس هذا التوصيف سوى انعكاس للواقع. فهكذا فعل مهندس السياسات المالية اللبنانية لعقود، حاكم مصرف لبنان، رياض سلامة. هو هَندَسَ السقف، إذ قال في بداية التسعينيات أن العيش تحته آمِن. ثبَّتَ سلامة الليرة بإحكام، وما زال. أعطى المصارف خدمات بنجمات خمس. فسارت المصارف وعين سلامة ترعاها وجيوب السياسيين ومقاوليهم تصفّق طرباً، وتغنّي للعبقرية والابداع الهندسي.
سنوات من الابداع والتفنّن في نهب المال العام، لم يعرف بها سلامة، فربما كان مشغولاً بعدّ راتبه الشهري وتوزيعه لسدّ القرض السكني وأقساط مدارس أولاده، مع احتساب ثمن البنزين ومتطلبات الأكل والشرب.. معذورٌ هو بانشغاله، فأحياناً لا يكفيه الراتب لتأمين التغطية الصحية في المستشفى.
لا يعرف سلامة شيئاً، هكذا أكّد بلسانه عبر إطلالاته الهوليوودية النادرة في عزّ أزمة تحتاج الى استنفار لا محدود من قِبَل شخص بمركزه. لكن عذراً، هذا في الدول التي تحترم نفسها وشعبها وقوانينها وأخلاقها.
عدم المعرفة عبّر عنها سلامة بدايةً حين طمأنَ اللبنانيين أن “الليرة بخير” حين كانت قد بدأت بالتهاوي. واختفى، ليتجلّى ظهوره في اجتماع لجنة المال والموازنة النيابية يوم الخميس 26 كانون الأول، المخصص لبحث الملف المصرفي وتحديداً التحويلات الى الخارج. وبعد الاجتماع، قال سلامة كلمته ومشى: سنتحقق من جميع التحويلات المالية التي خرجت من لبنان في العام 2019، وفي حال تبين أن ثمة أموال مشبوهة تخص سياسيين أو موظفي القطاع العام أو أصحاب المصارف فستتم ملاحقتها.
هي التحقيقات إذاً، لِمَ لا؟ فلتشمل التحقيقات أيضاً سعر صرف الدولار، فالحاكم قال أن “ما حدا بيعرف” ما سيكون عليه سعر الصرف مستقبلاً. نعم في الواقع لا أحد يعرف. لكن على مهندس هذا الواقع أن يعرف، أن يتوقع حصول ما حصل على الأقل، ولذلك، يجب عليه أن يعرف. وعليه أن يدرك أيضاً أن آماله العجيبة أن “يتحسن البلد كي يتحسن وضعه الاقتصادي” هي أبرز دليل على الفشل. فيا سعادة الحاكم، البلد مُصاب لأن وضعه الاقتصادي مصاب. والاقتصاد مصاب بفضل سياساتكم. فأصلحوا سياساتكم.
وإن كنت لا تعرف، فنحن نعرف، ونحن استبقنا ما يحصل وحذّرنا منه انطلاقاً من قراءات اقتصادية علمية كانت واضحة جداً لمن يريد أن يعرف.
فضل الله البريء
بنظرات توحي بالبراءة، أطل النائب حسن فضل الله عقب الاجتماع العجائبي. حَمَل فضل الله إلى الناس معجزة فتح الملفات والتحقيقات، وهو البارع في الحديث عنها، إذ لديه ملفات لو كشف عنها لأطاحت برؤوس كبيرة فاسدة، وأدخلتها السجن. فأين تلك الملفات والأسماء؟ محفوظة بحمى الحلفاء ووحدة الصف الشيعي.
لم يقتنع فضل الله ببعض ما قاله سلامة في الاجتماع، هكذا أكّد في مؤتمره الصحافي. ورغم ذلك “ركّزتُ على كيفية تأمين السيولة”. كذلك لم يقتنع فضل الله أن حاكم مصرف لبنان لا يعرف بأمر التحويلات التي حصلت. والتزاماً بحسن النوايا، “نقدّم أفكاراً انطلاقاً من المعايير القانونية”.
هو القانون استُحضِر على لسان فضل الله. فأين كان القانون طيلة سنوات؟ ماذا لو أصاب تطبيق القانون الحلفاء؟ هل يُضرَب صفّ الشيعة والمقاومة لأجل قضية “تافهة” كأموال الناس ولقمة عيشهم؟ ما هكذا الظن بكم يا نواب حزب الله.
ومع ذلك، والتزاماً بحسن النوايا – فنحن الشعب لدينا نوايا حسنة أيضاً- فإن استعادة “نحو 11 مليار دولار حوّلت للخارج” يكون بالكشف الحقيقي عما يجري في البلاد، فأنتم أيضاً تعلمون، ولديكم حلفاء يعلمون واستفادوا من الهندسات المالية ومن الصفقات المخالفة للقانون ومن مشاريع في وزارة الطاقة وغيرها.. فهذه المرة لن تنفع عبارة “لو كنت أعلم”.
خلص فضل الله إلى ضرورة توفير “بين 5 الى 10 مليار دولار”. يريد فضل الله توفيرها عبر “المسار القانوني” الذي يقتضي التحقيق. فهللويا في زمن الميلاد. سيُفتَح تحقيق، وستجتهد اللجان وتضع خلاصاتها وتصوراتها وستُشَكَّل لجان أخرى لمباشرة العمل، سيُستدعى القضاء ويجري تحقيقاته.. والأزمة الاقتصادية ستنتظر النتائج بكل ما أُوتيت من انخفاض لسعر الليرة وغلاء الأسعار وارتفاع معدل البطالة.
لو أنك لم تتكلم وجلست في صالون شركائك في الحكم منتظراً لا منظَّراً. فالتنظير يكشف المستور. ألم يقل سقراط “تكلم كي أراك”؟ وأنت تكلمت كثيراً ورأيناك في أكثر من قضية، ولم نرَ معك سوى الملفات، فيما كنا ننتظر التحرك داخل مجلسيّ النواب والوزراء، إذ معكم أكثرية عددية وعسكرية إذا لزِم الأمر. لكن يبدو أن القوة لا تُستَعمَل إلا للاعتداء على المطالبين باستعادة الحقوق والتحرر من كل الطبقة السياسية الفاسدة، كلّها من دون استثناء.
ليتكما لم تخرجا إلى العَلَن، فإن ابتُليتم بالمعاصي فاستتروا، فكيف ان كنتم أنتم المعاصي بذاتها عبر سياساتكم ومشاركتكم وتستّركم على الفساد؟ الشعب ليس “أهبَل”، أي هي البلاهة بلغة الشعب التي لا تفهمونها. الشعب خرج ضدكم كي ترحلوا لا كي تشكّلوا لجاناً تحقق في فسادكم فيما يموت هو وتسرق المصارف أمواله.