كتب انطوان فرح في “الجمهورية”: ما يجري منذ 17 تشرين الأول، شَكَّل، وعن غير قصد طبعاً، نوعاً من التغطية لتداعيات الأزمة المالية التي وصلت الى مرحلة متقدمة من الانهيار منذ مطلع 2019. لكن الحقائق القاسية، سوف تتكشّف فور تشكيل حكومة جديدة، وبدء النقاشات للاتفاق على خطة الانقاذ.
بدأ اللبنانيون يشعرون بثقل الأزمة في الاشهر الثلاثة الأخيرة من خلال تطورين:
أولاً – تراجع سعر الليرة في السوق الرديفة، في موازاة توقّف المصارف عن تزويد الناس بالدولار بالسعر الرسمي الثابت حتى الآن، الأمر الذي أدّى سريعاً الى ارتفاع اسعار السلع، وتدنّي القدرة الشرائية للمواطن بنسبة تتراوح بين 20 و30 في المئة.
ثانياً – الاجراءات المصرفية في وقف ضَخ المال على كل المستويات، وفرض الـ Capitals control ووقف الاعتمادات والتسهيلات للقطاع الخاص، أدّت الى تراجع حركة الاعمال بنسبة كبيرة، تمّت ترجمتها حتى الآن بارتفاع دراماتيكي في عدد العاطلين عن العمل، وفي تقاضي قسم من موظفي القطاع الخاص نصف راتب، وفي توقّف أعمال قسم كبير من المهن الحرة.
خارج إطار هذين التطورين، لم يشعر اللبنانيون بعد بعمق الأزمة، والمفاعيل الحقيقية سوف تظهر يوم نُغلق ملف الأزمة السياسية بصورة مؤقتة، ونبدأ البحث عن كيفية الخروج من الأزمة المالية. في هذه اللحظة سوف تتكشّف الحقائق التالية:
أولاً – انّ اعادة تمويل الدولة عن طريق الاقتراض بواسطة إصدار سندات أصبح أمراً من الماضي، ولن يكون في مقدورنا اعتماده قبل سنوات طويلة. وهذا يعني أنّ علينا أن نبحث عن وسائل تمويل جديدة.
ثانياً – إنّ قطاعنا المصرفي الذي كان عصب الاقتصاد، سيكون في حاجة الى إعادة رسملة، وربما الى عمليات دمج في ظروف صعبة، يغيب فيها الدعم والتحفيز الذي كان يؤمّنه مصرف لبنان في السابق لعمليات شبيهة.
ثالثاً – القطاع الخاص الذي يتعرض منذ سنوات لعملية قضم تصاعدية في حجم أعماله سوف يحتاج بدوره الى عملية تمويل لكي يتمكّن من الاقلاع مجدداً.
في هذه الاثناء سوف يتبيّن للحكومة التي ستتولى هذ العملية الانتحارية، أنّ عليها أن تكاشف الناس بأنّ الذهاب الى ما يعتبر “وصاية دولية” هو الطريق الوحيد المُتاح أمامهم، لأنّ واحدة من الحقائق المرّة ان الدولة وصلت اليوم الى المرحلة التالية: لا أموال جديدة تدخل الى النظام المصرفي، ولن يعود تدفّق الاموال قبل سنوات. الايرادات التي تحصل عليها الحكومة ستتراجع بنسبة غير واضحة حتى الآن، لكنها ستكون مرتفعة بحيث أنّ الـ12 مليار دولار التي تدخل الى الخزينة سنوياً قد تتراجع الى 7 أو 8 مليارات دولار.
في المقابل، لن يكون سهلاً خفض الانفاق بالطرق الكلاسيكية، وفي أحسن الاحوال قد ينخفض الانفاق الى 16 مليار دولار سنوياً. وهذا يعني أنّ علينا أن نبحث عن 8 أو 9 مليارات دولار اضافية للعام 2020 فقط، بصرف النظر عن الارقام الواردة في مشروع قانون الموازنة الذي أنجزته لجنة المال قبل أيام.
لذلك، واذا افترضنا انّ لبنان الرسمي اختار عدم اللجوء الى صندوق النقد والى مجموعة الدعم الدولية، سيكون مضطراً الى “اقتراض” حوالى 9 مليارات دولار لسد عجز الموازنة. وبما انّ الاقتراض من الاسواق أصبح مستحيلاً، سيتم الأمر من خلال هندسات تتمّ بالتنسيق مع مصرف لبنان. وبصرف النظر عن الطريقة التي ستعتمد في هذه الهندسات، فإنّ الحقيقة الأكيدة، انّ هذه الاموال ستكون من “رصيد” الودائع التي ستتآكل كلما أطلنا فترة الانتظار قبل طلب خطة إنقاذ.
بالاضافة الى الـ9 مليارات دولار، سوف تخرج من لبنان كمية من الدولارات لزوم استيراد المحروقات والطحين والدواء. وهذا يعني استخدام حوالى 4 مليارات دولار من احتياطي مصرف لبنان أيضاً، أي من الودائع.
الى ذلك، ستكون المصارف اللبنانية في وضع مأساوي في هذه الحقبة، ومن يتابع تطوّر اسعار اسهم المصارف المدرجة، يدرك انّ القيمة التجارية للقطاع تراجعت بما لا يقل عن 50 في المئة. وهذه نسبة مرعبة، وهي مرشحة للارتفاع، خصوصاً انّ الانخفاض وصل الى مستويات أعلى (حوالى 75 في المئة) في بعض الفترات قبل أن يعود الى الارتفاع قليلاً. وفي ظل انخفاض التصنيف ستكون عملية إعادة الرسملة معقدة جداً.
في الموازاة، سيتراجع أداء القطاع الخاص أكثر، وسيبلغ الانكماش مستويات متقدمة. وفي حين انّ التقديرات تشير الى نمو سلبي في العام 2019 بلغ حوالى 2,5 في المئة، فإنّ مؤشرات الاقتصاد تدل الى انّ النمو السلبي في الاقتصاد قد يبلغ 5 أو 6 في المئة في العام 2020.
وهذا يعني انّ حجم اقتصادنا (GDP) سيتقلّص من 56 مليار دولار في العام 2018 الى حوالى 54,5 مليار دولار في 2019 ومن ثم الى 51,5 مليار دولار في 2020. في المقابل، سيرتفع الدين العام الى حوالى 100 مليار دولار، بما يعني انّ نسبة الدين الى الناتج المحلي ستقترب من 190 في المئة، وبذلك قد يحتل لبنان المرتبة الاولى عالمياً في لائحة ديون الدول قياساً بحجم الاقتصاد.
وفي سيناريو افتراضي انّ لبنان الرسمي قرر عدم الاستعانة بخطة إنقاذ دولية، وانه سيحاول الخروج من الأزمة بقدراته الذاتية. فهذا يعني انّ المطلوب، واذا شئنا عدم الاقتراض في العام 2020 لتحاشي الانفاق من ودائع الناس، أن ينخفض العجز في الموازنة الى صفر. وهذا الطموح اقترحته الورقة الاصلاحية التي قدمتها الحكومة المستقيلة وأقرّتها في جلسة أخيرة لها. لكنه اصبح اليوم اقتراحاً وهمياً، لأنه يقوم على مبدأ الاقتطاع من ودائع الناس لتمويل الدولة.
حالياً، واذا ارادت أي حكومة مقبلة ان تُطبّق مبدأ صفر عجز في الموازنة، فإنها تحتاج الى حوالى 8 مليارات دولار. واذا ارادت توفير هذا المبلغ من خلال خفض الايرادات، وبما أنّ حصة الرواتب وخدمة الدين وشراء الفيول للكهرباء تحتاج حوالى 13 مليار دولار سنوياً، وبما أنّ خدمة الدين العام لا يمكن خفضها بلا خطة إنقاذ تتضمّن إعادة جدولة هذا الدين، وهي بالتالي ثابتة عند 5,5 مليارات دولار، فهذا يعني انّ على الدولة ان تفكر بطريقة لاقتطاع حوالى 8 مليارات دولار من بندَي الرواتب والكهرباء.
وكلفة هذين البندين حوالى 8 مليارات دولار. وبالتالي، ستحتاج الدولة الى وقف دفع الرواتب، والى وقف تشغيل معامل الكهرباء طوال العام 2020 لئلّا تضطر الى استخدام أموال المودعين. فهل هذا الكلام منطقي ويمكن أن يدخل في عقل عاقل؟
في المحصّلة، الصعوبات التي تنتظر الحكومة واللبنانيين هائلة، والكلفة باهظة، والخيارات صعبة ومُرّة. اذا اقتنع المعترضون بضرورة طلب معونة من الخارج، سيكون الوضع موجعاً جداً وسيستغرق التعافي التام سنوات. واذا تمّ تعطيل ورقة الاستعانة بالخارج، سيكون الوضع كارثياً، وستُقاس فترة التعافي بالعقود، هذا اذا كان التعافي الذاتي ممكناً.