تحقيقات علي إبراهيم: مسرحية لتبرئة المصارف والسياسيين

كل ما يحتاج القاضي علي ابراهيم معرفته يعلم به سلامة مسبقاً

3 مارس 2020
تحقيقات علي إبراهيم: مسرحية لتبرئة المصارف والسياسيين
خضر حسان
بات المشهد في هذه الجمهورية مملاً جداً. مشاهد مُكرَّرة وقضايا مؤامراتية من نسج الخيال، هدفها إحباط محاولات التغيير. ولإضفاء المزيد من الرتابة، تتّبع قوى السلطة الأداء نفسه، كممثّل مُبتَذَل لم يستطع تطوير أدائه لجذب الجمهور وإقناعه بالدور، ومع ذلك يصرّ على اعتلاء المسرح والتنقّل من مشهد لآخر.

آخر المشاهد المكررة، هو فتح تحقيق في التحويلات المصرفية إلى الخارج وبيع سندات اليوروبوندز، من خلال استماع المدعي العام المالي علي ابراهيم إلى إفادات عدد من أصحاب المصارف، يوم الاثنين 2 آذار.

ليست صحوة ضمير
تحرُّك القضاء لفتح الملفات التي تحوم حولها شبهات الفساد، هو مطلبٌ قديم، أصبح أكثر إلحاحاً مع انطلاق انتفاضة 17 تشرين الأول 2019. لكن العبرة في تغيير آلية العمل برمّتها، والانتقال من حالة الانتقائية واللامبالاة وإيداع الملفات “الدسمة” في الأدراج، إلى حالة نزع الخيمة من فوق رؤوس السياسيين ورجال الأعمال والموظفين الذين يدورون في فلكهم.

ومع عدم تغيير الآلية، وبالتالي إبقاء القضاء تحت المظلة السياسية، فإن خطوة المدعي العام المالي ليست صحوة ضمير ستقلب المعادلة، بل هي شاهد إضافي على أن “السيستم” ما زال يدافع عن نفسه بأجهزته السياسية والعسكرية والقضائية. فالقاضي ابراهيم يحقق في قضية لم يُنتَهَك فيها القانون، وبالتالي استماعه إلى أهل القطاع المصرفي ليس له أي أثر أو تداعيات. فأصحاب الأموال أحرارٌ في أملاكهم، يحوّلوها داخلياً أو خارجياً أو يحرقوها أو يتبرعون بها للجمعيات، وكذلك عملية بيع سندات اليوروبوندز، لأن لا قانون يمنع التصرّف بالأموال والسندات.

السند القانوني الذي يُفترض بالتحقيقات الخلوص إلى انتهاكه، غير موجود. وعليه، الأدلة التي سيجمعها ابراهيم لا تُدين المصارف، ولا أصحاب الأموال المحوَّلة. علماً أن السريّة المصرفية لن تكشف هوية أصحاب الحسابات. وكل ما في الأمر، أن ابراهيم يبحث عن حجم التحويلات ووجهتها، وليس أصحابها. فيما تبدأ الحكاية عند أصحاب الحسابات، لأن كشف الأسماء سيرافقه طرح سؤال “من أين لك هذا؟”. والسياسيون، أكثر المتضررين من السؤال.

لذلك، تجري التحقيقات بمضمون فارغ، فالتحويل مكفول قانوناً، وهوية أصحاب الحسابات الكبيرة ستبقى مجهولة، والمهلة الزمنية المحقق فيها هي فترة ما بعد 17 تشرين الأول 2019، والوجهة محصورة بسويسرا، أي أن القضية واضحة المعالم ومقيّدة، وستنتهي بالإعلان عن وجود تحويلات صغيرة، لكنها قانونية ولا يمكن ملاحقة أحد بناءً عليها.

مسؤولية أخلاقية
المسؤولية القانونية في هذه القضية غير متوفرة. فمن أتته الحماسة لكشف الفاسدين عبر القانون، عليه تخفيف حماسته والبحث عن سبيل آخر أكثر جديّة.

وأبعد من ذلك، التحقيقات التي ستُستَكمَل يوم الثلاثاء، وربما لما بعدها، ستصب في صالح المصارف ومن حوّل أمواله، لأنها ستُبرّئهم من أي ذنب غير قانوني. فيما كان الأجدى بالمدعي العام المالي التحقيق في قانونية الاجراءات التي تتخذها المصارف حالياً ضد صغار المودعين. فأي قانون يسمح للمصارف إعطاء أصحاب الودائع 100 دولار شهرياً؟ أو إلزام أصحاب الودائع بالدولار، سحب ودائعهم بالليرة وفق سعر صرفٍ لا يتناسب مع القيمة الحقيقية للودائع؟.

غياب المسوّغ القانوني الذي يُحاسب المصارف أو مَن أخرَجَ من البلاد ما يزيد عن 15 مليار دولار، لا يعفي هؤلاء من المسؤولية الأخلاقية التي لا يعترف بها المسار القانوني. وأخلاقياً، تعرف جمعية المصارف ورئيسها سليم صفير، وكذلك حاكم مصرف لبنان رياض سلامة، أن التحويلات بدأت منذ العام 2017، وارتفعت حدّتها منتصف العام 2018. وهؤلاء يعرفون تأثير السحوبات الكبيرة على اقتصاد البلاد وماليتها، ويعرفون أيضاً أن المصارف استمرّت في تحويل الأموال حتى بعد 17 تشرين الأول، ومع ذلك لم تكترث المصارف وحاكم المصرف المركزي لتداعيات التحويل، التي لا تنحصر في انخفاض ودائع المصارف في العام 2019 من 170.3 مليار دولار إلى 154.6 مليار دولار.

مشاركة جمعية المصارف في مسرحية التحقيقات، وسرور مصرف لبنان بفصولها، يدل إما على جهل أو مكيدة. والحالة الأولى مستبعدة، لأن أصغر دكان خضار في قرية نائية، تُظهِر حساباته حجم الأموال المدفوعة للغير، فهل يفوق دكان الخضار المصارف علماً بأصول المالية، وهي المُستَخدِمة لأجود أنواع البرامج الالكترونية التي تنظّم العمل المصرفي؟. كما أن المصارف قادرة على تقفّي أثر كل قرشٍ في حسابات صغار المودعين، ألن تعرف مسار مليارات الدولارات؟.

إصرار السلطة السياسية على حماية نفسها، وعدم الاعتراف بمسؤوليتها عن الأزمة، هو عامل طارد للمجتمع الدولي والمؤسسات المالية الدولية التي أعلنت استعدادها مساعدة لبنان في حال قرّر هو مساعدة نفسه، عبر التخلّي عن أسلوب المراوغة، وهو ما لم يحصل. فوفد صندوق النقد الدولي، التمس في لبنان الفوضى والتخبّط وغياب القدرة على معالجة الملفات، وهذا ما ستثبته لاحقاً نتائج القضية التي يعمل عليها المدعي العام المالي.

 

المصدر المدن