عاش القطاع العقاري منذ تشرين الأوّل الماضي فترة من الانتعاش النسبي، سببها الوحيد توجّه عدد كبير من المواطنين إلى شراء العقارات، باستخدام ودائعهم العالقة في المصارف، في محاولة لتهريب مدخراتهم من قبضة الانهيار المالي.
تجّار البناء والعقارات استفادوا بدورهم طوال الأشهر الماضية من هذه الظاهرة. فهذه الفئة من التجّار تحديداً، كانت تعاني من تراكم الالتزامات المتراكمة عليها تجاه المصارف، بفعل ركود السوق العقاري منذ سنوات. وهو ما دفعهم لقبول الشيكات المصرفيّة من الزبائن، على عكس الكثير من التجّار في قطاعات أخرى.
لكنّ هذا النمط من العقود الذي تهافت عليه المودعون وتجار البناء والعقارات، أصبح اليوم كابوساً يقلق راحتهم جميعاً. وهو ما بات يستدعي التدخّل العاجل من المعنيين.
كيف تحوّل المتنفّس إلى عبء؟
المتنفّس الذي استفاد منه المودعون وتجار العقارات والبناء، على حد سواء، طوال الفترة الماضية، تحوّل فجأة إلى مصدر أزمة يعاني منها الجميع، بعد دخول دخول البلاد في أزمة فيروس كورونا المستجد، وامتناع معظم المصارف عن تلبية حاجات المودعين، بخصوص إصدار الشيكات المصرفيّة.
فعلى الرغم من استثناء المصارف صراحةً من تدابير حالة التعبئة العامّة، التي أعلن عنها مجلس الوزراء، عمدت المصارف إلى حصر معظم عمليّاتها بالحالات المرتبطة بالأمن الغذائي والصحّي، من خلال عدد محدود من الفروع، وفي ساعات محددة، مندون أن تشمل هذه العمليّات في الغالبيّة الساحقة من المصارف إصدار الشيكات المصرفيّة، وإجراء التحويلات الداخليّة، وغيرها من العمليّات التي يطلبها أصحاب الودائع.
أمّا مكمن المشكلة الأساسي، فيكمن في ارتباط المودعين بعقود شراء عقاريّة موقّعة مسبقاً، ترتّب عليهم دفعات جرى جدولتها وفق استحقاقات معيّنة، إما إلى حين استكمال المستندات العقاريّة، أو عند تاريخ استحقاق الودائع في المصارف.
ومع إنتفاء قدرة المودعين على إصدار الشيكات المصرفيّة، بات هؤلاء غير قادرين على الوفاء بهذه الإلتزمات. وفي حين يحاول البعض التوصّل إلى تفاهمات حبيّة، لإلغاء العقود أو تعليقها، يقع البعض الآخر من المودعين في مأزق أكبر جرّاء تسديدهم في السابق لدفعات أولى، واحتواء عقود الشراء على بنود جزائيّة مكلفة، في حال التأخّر في سداد الدفعات اللاحقة.
وهكذا، سيكون هؤلاء تحت رحمة تفهّم تجّار البناء والعقارات للظروف القاهرة، في غياب التشريعات اللازمة لتعليق العمل بالبنود الجزائيّة في هذه الظروف.
أمّا من ناحية تجّار البناء، فثمّة مشكلة موازية لا تقل أهميّة عن مشكلة المودعين.
فلجوء المودعين لشراء الأقسام السكنيّة أو التجاريّة مقابل شيكات مصرفيّة، مثّل خلال الأشهر الماضية الطريقة الأمثل لتوفير السيولة اللازمة لتجّار البناء لسداد التزاماتهم السابقة لصالح المصارف.
وعمليّاً، باتت كل هذه العمليّات بحكم المجمّدة بعد الدخول في مرحلة التعبئة العامّة، وامتناع معظم المصارف عن إصدار الشيكات المصرفيّة للمودعين.
مع العلم أن مصدر القلق الأساسي بالنسبة إلى تجّار البناء يكمن في إمكانيّة تمديد المصارف لهذه الإجراءات، من دون العمل على أي معالجة لهذه الأزمة، خصوصاً مع تمديد الحكومة لحالة التعبئة العامّة.
حجم كبير لعمليات البيع المجمّدة
يمكن تفهّم قلق المودعين وتجار البناء والعقارات على حد سواء، عند النظر إلى حجم عمليّات المبيع العقاري الكبير الذي جرى تجميده، بفعل طريقة تطبيق المصارف لإجراءات التعبئة العامّة.
فخلال الأشهر الثلاثة الماضية، وحسب أرقام المديريّة العامّة للشؤون العقاريّة، بلغ حجم عمليّات البيع العقاري حدود الـ2.9 مليار دولار، في حين لم يبلغ حجم هذه العمليّات خلال الفترة المماثلة من العام الماضي سوى 1.9 مليار دولار.
وهو ما يعني وجود زيادة تقدّر بمليار دولار بين الفترتين. هذه الزيادة لم تنتج عمليّاً سوى عن سعي المودعين إلى تحويل ودائعهم إلى موجودات عقاريّة، إثر الانهيار المالي الذي ضرب البلاد منذ الفصل الأخير من العام الماضي.
مع العلم أن أرقام هذه العمليّات كانت تتصاعد شهريّاً بالتوازي مع تفاقم آثار الانهيار المالي على القطاع المصرفي.
عمليّاً، تعكس هذه الأرقام الحجم الضخم لعمليّات الشراء العقاري، التي كانت تجري شهريّاً لهذه الغاية، والتي إمّا تم تجميدها حاليّاً بعد توقيع عقود الشراء وترتّب الالتزامات على المودعين، أو توقّفت كليّاً قبل توقيع العقود، وذلك بسبب الإجراءات التي اتخذتها المصارف بعد إعلان حالة التعبئة العامّة.
وفي الواقع، لم تنتج هذه العمليّات، التي تم تجميدها اليوم، إلّا عن قلق المودعين أنفسهم على مدّخراتهم، بعد تطبيق المصارف لقواعد ضبط السيولة منذ تشرين الأوّل الماضي.
مخارج مطلوبة
في ظل هذه الأزمة، ثمّة خيارات عديدة ينبغي اللجوء إلى أحدها لمعالجة الموقف، وتحديداً من أجل الحفاظ على مصالح المودعين. فالمودعين الذين مازالوا يتحمّلون حتّى اليوم آثار الأزمة التي ضربت القطاع المصرفي منذ أشهر، سيجدون أنفسهم مجدداً تحت وطأة أزمة جديدة، بفعل قرار امتناع المصارف عن توفير الخدمات الضروريّة لعملائها، في ظل حالة التعبئة العامّة.
علماً أن قرار المصارف بعدم توفير هذه الخدمات حاليّاً غير مبرر، حتّى من ناحية السيولة، كون الشيكات المصرفيّة والتحويلات الداخليّة تتم بين المصارف من دون إخراج أي سيولة بالعملة الصعبة من البلاد.
الحلّ الأمثل في هذه الحالة سيكون بالتأكيد عبر تدخّل مصرف لبنان، لفرض حلول من جانب المصارف لهذه الأزمة. ويمكن للمصرف المركزي في هذه الحالة إصدار أي تعميم تنظيمي ضروري، للسماح للمودعين بإجراء العمليّات الأساسيّة في ظل حالة التعبئة العامّة، وبالإخص إذا كان المودع مرتبط بحاجة ملحّة، مثل وجود إلتزامات محددة بعقود، ووجود خسائر معيّنة ستنتج عن الإخلال بهذه الإلتزامات.
مع العلم أن هذا النوع من الحلول لن يسمح بتوفير الضمانات الكافية للمودعين، خصوصاً مع امتناع الكثير من المصارف عن تطبيق بعض التعاميم التي أصدرها مصرف لبنان، عبر تعقيد الإجراءات البيروقراطيّة الكفيلة بتنفيذها، كالتعميم المتعلّق بالتحويلات لاستيراد الدواء مثلاً.
وهكذا، وفي حال استمرار الوضع على هذا النحو خلال الأسابيع المقبلة، سيكون البديل الأفضل هو الضغط من أجل إصدار تشريعات معيّنة، تعفي المتعاقدين من البنود الجزائيّة، التي يمكن يتضرروا منها جرّاء التأخر في السداد، بسبب عدم القدرة على سحب الودائع من المصارف عبر الشيكات المصرفيّة خلال فترة التعبئة العامّة.
وبالتأكيد لن تنفع هذه الحلول في معالجة أزمة جمود عمليّات الشراء العقاري جرّاء إقفال المصارف في وجه المودعين، لكنّها على الأقل ستسمح بحماية المودع من الخسائر التي قد يتكبّدها، جرّاء إلتزامه بعقود شراء عقاريّة معيّنة، خصوصاً إذا كان المودع قد سدد دفعة أولى في السابق.
في كل الحالات، تبقى الأزمة التي يعيشها المودعون اليوم، ناتجة أساساً عن عدم وجود أي رقابة رسميّة واضحة، تفرض على المصارف الإلتزام بموجوبات معيّنة تجاه عملائها، حتّى خلال فترة التعبئة العامّة.
فقرار التعبئة استثنى المصارف صراحةً من موجبات الإقفال.
لكن اللبنانيين لم يسمعوا بأي تدخّل من مصرف لبنان لتنظيم العمليّات التي يجب على المصارف متابعة تنفيذها خلال هذه الفترة، رغم أن مصرف لبنان هو الجهة المفترض أن ترعى علاقة المصارف مع مودعيها.
وبغياب الجهة التي يُفترض أن تراقب، تمارس المصارف الرقابة على ذاتها، ووفق ما تمليه عليها مصالحها.