تحججت المصارف مؤخّراً بإقفال المطار وتوقّف استيراد الدولار الورقي، لتوقِف السحوبات النقديّة بالدولار كلّياً. تبيّن لاحقاً –كما أظهر مقال سابق في بيروت نيوز– أن مسألة المطار لم تكن سوى حجّة، بدليل استثناء طائرات الشحن من إجراءات التعبئة العامّة، وعدم توقّف شحن الدولارات خلال الفترة الماضية. في الواقع، يتبيّن اليوم أن توقّف السحوبات النقديّة بالدولار ارتبط بمسألة أخطر، تتعلّق تحديداً باستنزاف الموجودات الخارجيّة للمصارف اللبنانيّة، التي تعتمد عليها المصارف لاستيراد الدولار الورقي، وتنفيذ التحويلات إلى الخارج. وبسب هذه الأزمة المستجدة، التي يُضاف إليها اقتراب احتياطي المصرف المركزي من العملة الصعبة من مستويات حسّاسة، وتجفيف المصادر التي يعتمد عليها لبنان لتأمين الدولار بفعل أزمة فيروس كورونا، يبدو أن البلاد تتجه إلى مأساة معيشيّة صعبة، عنوانها ارتفاع سعر الصرف وشح الدولار في الأسواق.
أزمة الموجودات الخارجيّة للمصارف
تعتمد المصارف بشكل رئيسي على موجوداتها الخارجيّة لشراء الدولار الورقي من الخارج، ولسداد إلتزاماتها لصالح الجهات الأجنبيّة، وتنفيذ التحويلات إلى الخارج. وعمليّاً، ولغاية شهر كانون الثاني الماضي، لم يتبقَ لدى المصارف اللبنانية سوى 16.6 مليار دولار من هذه الموجودات، مقارنة بنحو 25.2 مليار دولار في بداية العام الماضي. لكنّ المصارف ليست حرّة بالتصرّف بهذه المليارات المتبقية، إذ يترتّب على المصارف اللبنانيّة نحو 8.45 مليار دولار من الإلتزامات لصالح القطاع المالي غير المقيم، أي المصارف المراسلة وغيرها من المؤسسات الماليّة الخارجيّة، وهي إلتزامات يقتضي سدادها بالدولار من الموجودات الخارجيّة. وبذلك، يتدنّى صافي الموجودات الخارجيّة بعد حسم قيمة هذه الإلتزامات إلى نحو 8.15 مليار دولار. وتصبح الصورة أكثر سوداويّة إذا عرفنا أنّ المصارف يترتّب عليها في المقابل نحو 23.89 مليار دولار من الديون والإلتزامات “غير المصنّفة”، والتي يستحق جزء كبير منها بالدولار الأميركي، وهو سيستنزف أيضاً من الموجودات الخارجيّة المتبقية.
هذه المشهد القاتم يعكس الوضعيّة الضاغطة على القطاع المصرفي لغاية كانون الثاني الماضي، ويمكن تخيّل المشهد المالي اليوم، بعد إضافة أثر السحوبات والتحويلات التي استنزفت المزيد من الموجودات الخارجيّة، منذ ذلك الوقت لغاية اليوم. باختصار، المصارف استنزفت موجوداتها الخارجيّة، التي تشكّل مصدرها الأساسي للدولارات النقديّة والتحويلات إلى الخارج، وبإمكان اللبنانيين أن يسلّموا أن المصارف لن تكون قادرة قريباً على تزويد الأسواق بالمزيد من السيولة الدولاريّة بالاعتماد على حساباتها في الخارج.
إحتياطات مصرف لبنان ليست بخير
مع استنزاف الموجودات الخارجيّة للمصارف، وتوقّفها عن تسليم الدولارات للمودعين، تذهب الأنظار إلى ما تبقّى من سيولة دولاريّة يمكن الاعتماد عليها، وتحديداً إلى إحتياطي المصرف المركزي من العملات الأجنبيّة. المصرف المركزي متشدّد في المحافظة على هذه السيولة، إذ أنّها تشكّل كل ما تبقّى من دولارات لتمويل استيراد القمح والدواء والمحروقات والسلع الحيويّة. ولذلك، فالمصارف غير قادرة على إستعمال هذه السيولة عبر سحب ودائعها بالدولار لدى مصرف لبنان واستعمالها لغايات أخرى.
أرقام المصرف المركزي كانت تشدد على تجاوز هذا الإحتياطي عتبة الـ29 مليار دولار، لكنّ جهات كثيرة كانت تشكك بهذه الأرقام، خصوصاً لجهة تضمّنها موجودات غير سائلة وربما غير قابلة للتسييل (يمكن العودة لمقال سابق مفصّل في “المدن” حول هذه المسألة تحديداً). في الواقع، أكّد وزير الماليّة نفسه كل هذه الشكوك، حين ذكر أنّ المتبقّي من الموجودات السائلة بالدولار لدى المصرف المركزي لا تتجاوز قيمتها الـ22 مليار دولار.
عملياً، هذه الـ22 ملياراً تمثّل الإحتياطي الاستراتيجي الوحيد المتبقي لدى لبنان من أجل تمويل الاستيراد، خصوصاً في ظل توقّف التحويلات من الخارج بإتجاه النظام المصرفي اللبناني، بشكل كلّي. وبمراجعة أرقام الجمارك اللبنانيّة في شهر كانون الثاني، يتبيّن أن الواردات اللبنانيّة بلغت قيمتها في ذلك الشهر حدود الـ1.2 مليار دولار، وهو ما يعني أن إحتياطي المصرف المركزي من العملات الأجنبيّة سيكون كافياً لتغطية حاجة لبنان للاستيراد لنحو 18 شهراً فقط.
شح مصادر الدولار الأخرى
مع تراجع إحتياطات مصرف لبنان، واستنزاف موجودات المصارف، لم يعد لبنان يملك الكثير من مصادر العملة ليراهن عليها. آخر مصادر العملة الصعبة كانت التحويلات التي استمر جزء من المغتربين بتحويلها لأسرهم عبر شركات تحويل الأموال، مع العلم أن المغتربين توقّفوا منذ تشرين الأوّل الماضي عن تحويل الدولارات للإدخار في المصارف، بعد حصول الانهيار الأخير في القطاع المصرفي.
لكنّ هذا المصدر الأخير من العملة الصعبة بات يعاني أيضاً من أزمة تهدده، مع توسّع أزمة كورونا عالمياً وضربها لمصادر دخل اللبنانيين في بلدان الإغتراب. واليوم، بات عشرات الآلاف من المغتربين اللبنانيين، وبالأخص في الدول الأفريقيّة، ينتظرون الفرصة للعودة إلى البلاد، بعد أن ضربت جائحة كورونا المجتمعات التي يقيمون فيها.
على حافة المجاعة
إذاً، أزمة شح الدولار ستكون أكبر من مجرّد مساس بحقوق المودعين في المصارف، والبلاد باتت على وشك أزمة إجتماعيّة كبيرة. فمع شح الدولار في الأسواق، وتوقّف عجلة الإنتاج بشكل كامل، واعتماد البلاد على المتبقي من دولارات في مصرف لبنان وفي منازل اللبنانيين لإستيراد الغذاء، لا شيء سيوقف تحليق سعر الصرف عالياً. ومع كل ارتفاع في سعر الصرف، ستكون القدرة الشرائية للبنانيين على موعد مع مزيد من التدنّي، إلى أن يطال هذا التدنّي قدرتهم على توفير أبسط مقوّمات الصمود. كل السيناريوهات تؤدّي إلى مشهد واحد: لبنان سيكون على مشارف انهيار اجتماعي كبير، يمكن أن يصح فيه توصيف “المجاعة”.
كان من المفترض أن تكون السلطة بصدد قرع ناقوس الخطر اليوم، وإطلاق أكبر مشروع للنهوض بمقوّمات الصمود، وبالأخص من ناحية تفعيل الإنتاج الغذائي إلى أقصى حدود لحماية الأمن الاجتماعي، وتخفيف إرتباط أزمة اللبنانيين المعيشيّة بشح الدولار وارتفاع سعر الصرف. لكنّ مجلس الوزراء، كما بات واضحاً، ينشغل اليوم بأزمة التعيينات وتوزيع المراكز بين أقطاب الطوائف، والتي للمصادفة تتعلّق بمراكز نقديّة وماليّة حساسة. وبدل تشكيل فريق عمل نقدي- مالي منسجم، في مواقع الصفّ الأوّل لمواجهة الكارثة، طارت التعيينات بعد أن طار التوافق حول تحاصصها. وبدل التفكير في خطّة للبدء بمعالجة أزمة الودائع عبر إعادة هيكلة القطاع المصرفي، قادت مزايدات بعض الزعماء في موضوع “حماية المودعين” وتركيز مصرف لبنان على مصالح المصارف إلى تعاميم ستغرق السوق بالليرة اللبنانيّة، وسيكون علينا ترقّب المزيد من الارتفاع في سعر الصرف.
علام يراهن اللبنانيون اليوم؟ سيكون عليهم ترقّب سعر الصرف كل صباح، وترقّب الكارثة المعيشيّة التي ستحل تدريجياً بالبلاد. وبالتوازي، سينتظرون أن ينتهي كابوس كورونا بطريقة ما، على الأقل كي لا يعيشوا المأساة المعيشيّة وهم أسرى المنازل، ولا يستطيعون مواجهة من تسبب بهذه المأساة.