إمكانية الضبط
لم ننسَ بعد، كيف رفض حاكم المصرف المركزي التدخّل لوقف ارتفاع سعر الدولار واستنزاف قيمة الليرة، بذريعة أن المركزي لا سلطة له على الدولار النقدي، لأنه ليس الجهة التي تطبعه. كما اعتبر سلامة أن الدولار هو سلعة يخضع تسعيرها لمبدأ العرض والطلب. وامتنع عن لجم نفوذ الصرافين وتحكّمهم بالسعر، بحجة غياب التشريع القانوني لذلك.
فجأة، أصبح للمركزي دور. لكن التدخّل جاء عكسياً، فبدل ضبط السعر والحد من سلطة الصرافين، وإفادة اللبنانيين من صلاحيات مصرف الدولة، تدخّل المركزي لتغطية الصرافين وحمايتهم، رغم أن سلامة أوحى مراراً أن تعاميمه تهدف إلى ضبط السعر، وخصوصاً التعميم الذي يحدد أرباح الصرافين بسقف 30 بالمئة من سعر الدولار الرسمي المحدد من مصرف لبنان.
وللترويج لتعميمه إيجابياً، دَفَعَ سلامة هيئة الرقابة على المصارف، لتتولى الرقابة على الصرافين، بالتعاون مع القوى الأمنية. ولم تنجح هذه الخطوة في وقف صعود سعر الدولار. إذ لا نية فعلية لوقفه. لكن مع ذلك، أكّدت هذه الخطوة بأن إمكانية الضبط موجودة، والمركزي هو صاحب الاختصاص والقرار.
وللدلالة الغضافية على دور المركزي في التحكم بسعر الدولار “..الذي لا يطبعه”، هو تأسيس المنصة الالكترونية. فما هو سبب التحوّل؟
شراكة جديدة
رأى مصرف لبنان الذي يمثّل السلطة السياسية، وجمعية المصارف التي تمثّل الوجه الآخر من العملة، بأن الصرافين يزدادون قوة، ولم يكن توسّع نفوذهم في الحسبان. فبات من الضروري مشاركتهم في الأرباح والسلطة على الأرض.
ولم تكن تلك الترويكا لتتكرّس لو أن الوضع الاقتصادي والنقدي لم يتطوّر نحو الأسوأ. فالمصارف أصبحت الخاسر الأبرز، وهي تواجه حالياً تغييراً جذرياً في مسارها. ولولا تدخّل السلطة السياسية ومصرف لبنان، لكانت حركة انحدار المصارف سريعة جداً. وفي المقابل، كان سوق الصرّافين ينمو بقوة ويسرق الأضواء من المصارف. وبسبب المساعدة التي قدّمتها السلطة ومصرف لبنان، بشكل مباشر وغير مباشر، أصبح كبار الصرافين شركاء أساسيين في معادلة رفع سعر صرف الدولار. وبعد نحو 9 أشهر من بدء الارتفاع التدريجي لسعر الدولار، بات بإمكان كبار الصرافين المجاهرة بمكانتهم داخل اللعبة. وليست المنصّة الالكترونية سوى الشكل الجديد الذي سيمارس الصرافون من خلاله سلطتهم علانية.
وعليه، فإن ترسيخ الشراكة تطلّب إصدار تعميم حمل الرقم 149، الذي ينشئ مصرف لبنان بموجبه منصة إلكترونية، تضم إلى جانبه، المصارف ومؤسسات الصرافة من الفئة “أ” فقط. وحسب التعميم، تحدد هذه الأقطاب الثلاثة، سعر الدولار، ويُعمَل به كسعر موحّد في السوق وفي المصارف، فيُودّع اللبنانيون بذلك، سعر 1515 ليرة للدولار، الذي عهدوه لعقود، ليستقبلوا أسعاراً مرتفعة، لا رقيب عليها ولا حسيب.
لا ضبط للأسعار
تهدف خطوة مصرف لبنان، بحسب أركان الترويكا، إلى ضبط سعر الدولار. وهو ما يتوقعه نقيب الصرافين محمود مراد، الذي يعتبر في حديث إلى “المدن” أن الصرافين “سيلتزمون بالسعر الناجم عن المنصة الإلكترونية في الأيام القليلة المقبلة، بعد تأكيد مدير عام الأمن العام عباس ابراهيم بأنه سيتم التشدّد بمراقبة الصرافين وضبط عملهم، وتوقيف غير القانونيين منهم”.
وللمفارقة، لم يستطع الأمن العام ولا الأمن الداخلي ولا مخابرات الجيش إلزام الصرافين باعتماد سقف أرباح لا يتجاوز 30 بالمئة من السعر الرسمي، رغم أن هذ السقف منصوص عليه في تعميم صادر عن مصرف لبنان. كما أن أحداً من الصرافين المرخصين، لم يلتزم بالسقف، فما هي المعطيات المستجدّة التي ستضمن التزام الصرافين بسعر المنصة؟
حتى اللحظة، وبفعل تعميميّ مصرف لبنان رقم 148 و149، أصبح في لبنان أربعة أسعار للصرف، سرعان ما سيزول أحدها، وهو السعر الرسمي المعمول به داخل المصارف، حيث سيتحول سعر الدولار إلى 2600 ليرة، بعد تحويل المصارف قيمة الحسابات الصغيرة بالليرة، إلى دولار على سعر 2600 ليرة. فيصبح هذا السعر بمثابة السعر الرسمي، وإن لم يُعلَن ذلك. ليبقى السعر التوافقي الذي تعلنه المنصة، إلى جانب سعر السوق السوداء الذي سيفرض قوته على الأرض، ولن يتغاضى عنه الصرافون لأنه أكثر قدرة على جذب الدولار. وبما أن سعر الدولار يحدده العرض والطلب وفق سلامة، ويحدده الصرافون وفق مراد، فالكلمة الفصل ستكون للسوق السوداء. هذا إن سلّمنا بأنها فعلاً سوق سوداء لا يمكن مراقبتها ولجمها.