في أواخر العام الماضي، طلب حاكم مصرف لبنان رياض سلامة من المصارف زيادة رأسمالها بنسبة عشرة بالمئة ففعلت. وبموجب التعميم ذاته كان يفترض أن تزيد المصارف عشرة بالمئة ثانية قبل حزيران المقبل، لكن الحاكم وفق بعض المصادر جمّد مفعول التعميم بعدما تبيّن أن المصارف لن تستطيع تلبية طلب الحاكم، لعجزها عن تأمين مستثمرين جدد لا سيما في ظل الظروف الاقتصادية الراهنة.
مشكلة المصــارف لا تقتصــر على عدم قدرتها على استقــطاب مستــثمرين جـــدد، بعدما دخلـت منذ السابع عشر من تشرين الأول الفائت مرحلة جديدة من تاريخها. القطاع المصرفي الذي كان مصدراً لـ”ثقة الخارج في لبنان”، وتغنى طويلاً بقدراته على جلب الودائع والاستثمارات، صار متهماً من قبل الكثيرين. ساءت علاقته بالمودعين بعدما حجر على أموالهم وصار يقنّن مصروف يومهم من حسابهم بوسائل وصلت إلى حد الإهانة. يكفي استطلاع آراء العشرات كي نعرف كيف تحول موقف المواطنين من المصارف، وصار أي فرد منهم يفضل اللجوء الى أساليب أجداده القديمة للإدخار على أن يؤمن على أمواله في مصرف. ولم يكن مصرف لبنان أسلم وضعاً وقد صارت مصداقيته على المحك.
إزاء هذا الواقع، يواجه القطاع المصرفي معضلتين عليه معالجتهما، تتعلق الأولى بإعادة الهيكلة الشاملة التي بات الحديث عنها جدياً وضرورياً، والثانية إعادة ترميم ثقة المواطنين بالمصارف بعد كلّ الذي حصل.
أظهرت الوقائع في الآونة الاخيرة وجود نحو 63 مصرفاً (بينها 3 مصارف لا تعمل) يملك معظمها نحو عشرين متمولاً. وبيّنت الأزمة عجز المصارف عن الاستمرار، وحاجتهـــا إلى الدمج بنـاء على قانون. هـذه المصارف لم تعد قادرة على جلب مستثمرين جدد فصار الاندماج المصرفي إجراء لا بد منه. ومن هنا يتوقع أن تلجأ بعض المصارف غير القادرة على الاستمرار ضمن المستويات المطلوبة من الرسملة، إلى القيام بتصفية ذاتية أوالتوجه نحو خيار الدمج مع مصارف أخرى. غير ذلك لا ملامح واضحة بعد لخطة إعادة هيكلة المصارف وإعادة هيكلة مصرف لبنان التي تحدثت عنها خطة الحكومة أخيراً، علماً أن إعادة الهيكلة باتت ضرورة ملحة ولكنها محاطة بجملة من الأسئلة: من سيكون قيماً على ورشة إعادة هيكلة المصارف ومصرف لبنان التي اوصلتنا الى الخسائر الفادحة التي منينا بها؟ بالاضافة الى السياسات المالية والنقدية عبر سنوات ومن يعوض على الناس حقوقهم البديهية والتي نصت عليها مقدمة الدستور؟ يسأل وزير الاقتصاد السابق منصور بطيش.
الهيكلة لا تكفي
أي نقاش بالموضوع يفرض ان يذكر الوزير بطيش بالمستحقات المترتبة على الدولة، بدءاً من أرقام الدين العام الذي بلغ 92 مليار دولار لغاية 31 كانون الأول 2019، تضاف إليه الإلتزامات المترتبة على الدولة، غير المدفوعة، لصالح الضمان الاجتماعي (ما يعادل حوالى 2,2 مليار دولار)، ولصالح مؤسسة ضمان الودائع ولصالح المتعهدين والمستشفيات، وغيرها والمقدّرة كلها بنحو 5 مليارات دولار. كما تضاف خدمة الدين العام للفصل الأول من العام 2020 بما فيها الكوبونات (فوائد نصف سنويّة) على محفظة اليوروبوندز. استناداً الى كل ذلك، يقدّر بطيش “إجمالي الدين العام حاليّاً بحدود 150 مليار دولار، بما فيها فجوة مصرف لبنان التي لم يكن احد في وارد الحديث عنها سابقاً، والتي أشرت اليها قبل عام”.
من يتحمّل مسؤولية كل تلك الخسائر؟ ومن استفاد من كل هذا الواقع غير بعض السياسيين والمصارف وكبار المودعين ومنهم مودعون غير مقيمين؟ ومن يتحمل تلك الخسائر الناجمة عن العجز المتراكم في الميزان التجاري، نتيجة النموذج القائم منذ التسعينات وعجز الكهرباء والهندسات المالية، التي طمست الحقائق والفوائد العالية التي دفعت بالدولار لا سيما لغير المقيمين، الذين قبضوها عملياً من ودائع الناس وحولوها الى الخارج.
لا تُحسد الحكومة على وضعها، “تبذل جهدها في مواجهة أزمة إقتصادية مالية نقدية مصرفية، نتج عنها ازمة اجتماعية وكلها على مستوى الخطـــــورة ذاتهــا لوبــــاء الكورونا”. أرقـام بالجملة ورواتب ومخصصــات خيالية يسردها بطيش، لينتهي منها الى وجوب إعادة النظر بالواقع الحالي من أساسه لكل من المصارف ومصرف لبنان.
ينتقد وجود أربعة نواب لحاكم مصرف لبنان بينما لحاكم مصرف فرنسا المركزي نائبان، يتقاضى كل منهما راتباً سنوياً يبلغ نصف الراتب الحالي لنائب حاكم مصرف لبنان! ويتساءل عن الاعداد المرتفعة لكبار المسؤولين في مصرف لبنان وفي هيئة الاسواق المالية؟
ويكشف بطيش أن راتب نائب حاكم مصرف لبنان 33 مليون ليرة شهرياً مضروبة بـ16 شهراً مع بدل سفر يبلغ 2000 دولار يومياً، بينما يتقاضى الحاكم 3000 دولار يومياً عن بدل سفر!
لا يوافق بطيش قول حاكم مصرف لبنان في ما يتعلق بوجود إحتياط “لأن هذا الاحتياط غير موجود في مصرف لبنان، وهو سلبي لانه جرى التصرف بحدود الخمسين مليار دولار من ايداعات المصارف لديه، والتي هي جزء من ودائع الناس في المصارف وقد تبخر”.
ويوضح ان “ودائع الناس في المصارف بالدولار كانت تقارب 118 ملياراً حتى نهاية العام الماضي، يضاف اليها ما يعادل 40 مليار دولار بالليرة اللبنانية (على اساس 1500 ليرة سعر صرف الدولار). وصرح وزير المال والحاكم انه لم يعد هناك الا 22 مليار دولار، فأين ذهب الاحتياط إذاً وقد اصبح سلبياً، وأين أموال الناس؟ من شروط إعادة الهيكلة ان يكون هناك هبوط آمن ورؤية مستقبلية واضحة، ينفذها رجالات دولة بعيداً من المناكفات السياسية، وفي إطار قانون النقد والتسليف”. وفي حال حصل ذلك بعيداً من المناكفات السياسية، هل من مفاعيل لإعادة الهيكلة؟
تنظير ولا خطط
يستذكر خبير مصرفي التجربة الأميركية التي حصلت العام 1930، حين أعادت الولايات المتحدة هيكلة مصارفها، لكن بناء على إجراءات سليمة وسياسة نقدية للسلطات المعنية لم تؤثر سلباً على المودعين. “لكن الحاصل اليوم أن مسألة اعادة الهيكلة خاضعة للتنظير، فيما الكل ينتظر البرنامج الاصلاحي الكامل المتكامل للحكومة”.
برأيه، لا يستند الحديث عن إعادة الهيكلة إلى دراسة علمية، هي أفكار ومواقف سياسية “بدليل المذكرة التي أرسلها وزير المال غازي وزني الى الحاكم يسأله فيها عن موضوع تخفيض الرواتب”. ويقول المعنيون بشؤون مصرف لبنان إن الحاكم ليست لدية صلاحية البت في مثل هذا الطلب، وإذا تم تطبيقه فستكون له تبعات على رواتب سائر الموظفين نظراً لسلسلة النسب التي تخضع لها الرواتب في الفرق بين راتب وآخر.
“التنظير” يصف به الخبير أيضاً الكلام عن رفض وجود أربعة نواب للحاكم، مبدياً خشيته من ان يكون الهدف من إثارة الموضوع تقليص صلاحيات الحاكم، “كما ان بقاء الحاكم من دون نواب يجعل صلاحيته منقوصة ويفقده القدرة على اتخاذ القرارات”.
لكن بطيش “الضنين بالمصارف” يرفض ما يحصل اليوم، مبدياً حرصه على إعادة هيكلة المصارف وتحديثها لتكون في خدمة إقتصاد الريع، وتعود الى لعب دور في تطوير اقتصاد الانتاج وليس خادماً لاقتصاد الريع. يقول: “ما يهمني ان تلعب الدولة دورها في إطار نظام اقتصادي حر قائم على المنافسة الحقيقية، ولا تسيطر عليه الاحتكارات من اي نوع كانت”.