مجرّد اعتراف
تُعدّ الحكومة بطاقة الدعوة لصندوق النقد الدولي لايجاد حلّ للأزمة. ولا إمكانية لاستقطاب الصندوق بشكل جدّي، من دون أرضية علمية مقبولة، فكان البرنامج الإصلاحي الذي كشفت الحكومة عنه مع إشارة إلى أنه “مسودّة للنقاش”.
غير أن الحكومة لم تقدّم في مسودّتها أي جديد سوى الاعتراف الذي لم يكن بطيب خاطر.
ولم تحدد الجهة الثانية التي تريد النقاش معها، والتي يُفتَرَض بأن تكون الشعب اللبناني، وذلك قبل تحويل المسودة إلى خطة نهائية جاهزة لتلقّي ثقة صندوق النقد.
وهذا ما لم يحصل، لأن الشعب اللبناني لا ثقة لديه بالحكومة وبالسلطة ككل. وبالتالي، تذهب الحكومة إلى الصندوق بخطة لا ثقة شعبية فيها.
غياب الثقة الشعبية بما أنتجته الحكومة، سينسحب بلا شك على الصندوق، لأن الخطة الحكومية ترتكز على وعود بالاصلاح وبتكرار ما “يجب فعله”.
ولو أن السلطة تريد القيام بخطوة إيجابية، لكانت نفّذت ما ضمّنته في الخطة. وفي هذا النهج، استذكار للوعود التي أُطلِقَت في مؤتمر سيدر، واكتشف المجتمع الدولي بعدها، زيف الادعاء بالإصلاح.
فإذا كانت السلطة تريد “اللعب” مع صندوق النقد، متسلّحة بقدرتها على التحاذق مع اللبنانيين لسنوات، فهي حتماً لا تدرك حقيقة مستنقع الرمال المتحركة الذي تقف فيه.
والتجربة الأخيرة منذ إضاعة فرصة سيدر حتى محاولة التذاكي بصياغة ما سُمّي بالورقة الإصلاحية، التي وُضِعَت قُبَيل إطاحة انتفاضة 17 تشرين الأول 2019 بالحكومة التي ترأسها سعد الحريري، أكدت أن انتهاج المبدأ نفسه ما عاد يجدي نفعاً، رغم كل أدوات الضغط السياسي الداخلي، القائم على تخويف الناس وشق صفوفهم وتهديدهم بالفوضى، إذا ما سقطت الحكومة أو “العهد”.
المصارف والأموال المنهوبة
نقاط كثيرة يجب بحثها للخروج من الأزمة، وأهمها السعي لإعادة هيكلة الدين العام، الذي يتضمّن حكماً إعادة تشكيل القطاع المصرفي، الذي يحمل العدد الأكبر من سندات الدين. لكن رغم الايجابية التي تحملها إعادة الهيكلة على مستوى استعادة الملاءة الائتمانية للدولة، وبالتوازي مع إعادة الثقة الدولية عبر طمأنة حاملي السندات الدوليين، كشفت الحكومة بشكل غير مباشر عن علامات استفهام حيال جديّة اقترابها من القطاع المصرفي، وما يحمله هذا الاقتراب من نتائج إيجابية على ملف الدين العام.
والتُمِسَت علامات الاستفهام من خلال كلام وزير المالية غازي وزني، الذي أكد أن “إعادة تشكيل القطاع المصرفي لن يحصل قبل استعادة الأموال المنهوبة”، أي لا استعادة للملاءة الائتمانية قبل استعادة الأموال المنهوبة.
وكلنا يعلم أن استحضار موضوع استعادة الأموال المنهوبة، لم يكن سوى طُعمٌ رمته السلطة لاصطياد خطاب انتفاضة 17 تشرين الأول، وتوجيهه نحو المطالبة بالمجهول.
وها هي تستحضره من جديد من دون إدراك تغيّر معطى أساسي. فبدل التوجه إلى الشعب، تتوجه السلطة اليوم إلى صندوق النقد. وهذا المعطى ليس معزولاً، بل يرتبط بالدائنين الذين أجّلَ لبنان دفع مستحقاتهم بحجة أولوية إعطاء الأموال للشعب.
فإذا لم تُعطَ الأموال للشعب ولم تُدفع لحاملي سندات الديون، فسيقلب المجتمع الدولي الطاولة على السلطة، وحُكماً على الشعب اللبناني، الذي سيعاني أكثر مما يعانيه اليوم، اقتصادياً واجتماعياً.
وهُنا تكمن خطورة ما تحاول السلطة التحاذق به أمام المجتمع الدولي، عبر السطور المصفوفة تحت مسمّى خطة الإصلاح.
خلقت الحكومة قلقاً مشروعاً بعد بثّها جرعات من الوعود الإيجابية. وعدم حسم مسألة كيفية التعامل مع القطاع المصرفي، أثار استنفار المصارف التي تلعب مع السلطة على حافة الهاوية، حيث تشق طريقها بسرعة نحو توسيع سلطتها، عبر الشراكة بالتحكّم بسعر الدولار، ومن جهة أخرى تطلق سهامها نحو الحكومة لثنيها عن المس بالقطاع.
وحتى إيجاد صيغة توافقية، ترى المصارف خطة الحكومة بأنها قاصرة عن إعطاء الثقة لصندوق النقد، وبالتالي الإصلاح.
وإن لم ترضَ المصارف، ستضغط على الحكومة عبر صغار المودعين والدولار، أي ستضغط على كامل الشعب اللبناني. ولن تستطيع الحكومة تجاهل القطاع المصرفي، لأنه على علاقة وثيقة مع مصرف لبنان، وخصوصاً مع حاكمه رياض سلامة، الذي “يُهندِس” علاقة جديدة مع المصارف.
كما أن رفض المصارف لأي إجراء قد تقوم به السلطة، وإن صدر عبر السلطة التشريعية، سيعطي انطباعاً غير سار لحاملي السندات الدوليين، ومن خلفهم صندوق النقد. وعليه، فإن ربط أي خطوة إصلاحية باستعادة الأموال المنهوبة، هو تسويف وتضييع للحقيقة.
في المحصلة، الحكومة أمام مأزق ضرورة بعث رسائل إيجابية لصندوق النقد، وفي الوقت عينه، تريد خفض ضغط الدين العام، وبالتوازي إعادة هيكلة القطاع المصرفي الذي يتوقّف على موافقة المصارف وثقتها بالحكومة. ومع زيادة الصعوبات، أحيل كل ذلك إلى استعادة الأموال المنهوبة. وهُنا تقبع الدوامة التي اعتدنا عليها.