ليس عاديًّا خبر إقفال فندق “البريستول” في قلب بيروت. فالصرح الفندقي العريق أعمق من مكان أو زمان. عندما افتتح أبوابه لإستقبال زواره عام 1951، كان لبنان لا يزال في بداية عقده الثالث. عاصر”البريستول” على مدى سبعة عقود جزءًا من محطّات هذا البلد بحلوها ومرّها، فأضحى فصلًا من ذاكرة ست الدنيا.
ارتبط إسمه بحقبات نضالية في تاريخ لبنان، أبرزها ” لقاء البريستول”، الذي أسّس للإستقلال الثاني، وشهد على التناقضات اللبنانية وصراع المحاور على أرض بيروت، والتي تجسّدت في منع إنعقاد لقاء “سيدة الجبل” في إحدى قاعاته، لمناهضة “الهيمنة الإيرانية”. أبعد من السياسة مثّل الفندق وجه بيروت الثقافي الحضاري والسياحي. إقفاله اليوم وقبله فندق “الحبتور”، مؤشّر على ثقل الأزمة التي يعاني منها القطاع السياحي في لبنان بشكل عام والفندقي بشكل خاص. فماذا بعد؟ هل ستكرّ سبحة الإقفالات؟ ماذا عن مصير آلاف العاملين في القطاع؟ وهل من تصوّر يمنح الفنادق مقوّمات الصمود؟
رئيس نقابة الفنادق في لبنان بيار الأشقر ينطلق من إقفال فندقي “الحبتور” و”البريستول”، بين أكبر فنادق لبنان، ليوصّف حال القطاع، وفي اتصال مع “لبنان 24” يقول ” وفق تصوري، إقفال “البريستول” لن يكون لأشهر معدودة، وهو ترجمة للأزمة التي يعيشها القطاع، وهنا لا أتحدث عن الكورونا أو الثورة، بل أنّنا ومنذ العام 2011 نطلق الإنذارات بأنّنا نتكبّد خسائر كبيرة، يضاف إليها الفوائد المصرفية المرتفعة بين 12 و15%، طالبنا بمنح القطاع حوافز ضريبية وتسهيلات لنتمكّن من الصمود، كأن تتراوح الفائدة بين 2 و5% كحدّ أقصى، وتخفيضات على بطاقات السفر للمشاركين من قبلنا في مؤتمرات عالمية تسوّق للسياحة في لبنان، وغيرها من الإقتراحات، ولكن مع الأسف لم يأخذوا صرخاتنا بعين الإعتبار، وغابت المعالجات“.
قبل كورونا، ومنذ العام 2011 يدفع القطاع فواتير تداعيات الأزمات السياسية والإقتصادية، وإن خرقت تلك السنوات مرحلة ازدهار بين عامي 2017 – 2018 وبداية عام 2019. بعد كورونا مرحلة ضبابية لا تقل صعوبة، وفق مقاربة الأشقر “تنقّل الشعوب بين البلدان لن يكون سهلًا، فالسلوك البشري بعد كورونا لن يكون كما قبلها، الأمر الذي ينعكس على الإشغال الفندقي، ولكن بطبيعتي متفائل وأحاول البناء على الإيجابيات، وسنعمد إلى الإستفادة من تدنّي حالات الإصابة بالفيروس في لبنان مقارنةً مع الدول الأخرى، فهذا المعطى الإيجابي يجعل لبنان متقدّما على غيره من البلدان في إستعادة الإنطلاقة السياحيّة، ويجب أن نبقى مستعدّين للإستثمار في الإيجابيات“.
لكن هنا لا نتكلم عن موسم الصيف المقبل “لا موسم لهذا العام، لا مؤشرات لأيّ نشاط سياحي في ظل محاربة البشرية لوباء كورونا. فالحجوزات التي تبدأ في مثل هذه الأيام هي معدومة. ووفق المعطيات الراهنة لن تقضي الناس إجازاتها خارج بلدانها. قد يلجأون إلى إستبدال الإقامة في الفنادق بإستئجار منازل أو قوارب Boat مثلًا. ولا بدّ من متابعة الدراسات، لنرى كيفية الاستفادة منها في الفترة الفاصلة عن عودة الأمور الى طبيعتها على مستوى العالم ككل“.
الأشقر يقرأ في الوقائع ليستخلص منها ما يمكن البناء عليه لجعل القطاع يصمد، وطالما أنّ عودة السياحة الخارجية ستستغرق وقتًا، يعقد آمالًا على السياحة الداخلية “هناك ما يقارب 220 ألف لبناني يزورون تركيا خلال الصيف، وآخرون يقصدون وجهات سياحية أخرى، لا أعتقد أنّهم سيسافرون هذا العام، أو على الاقل سيتضاءل العدد، وبالتالي هؤلاء سيجدون في السياحة الداخلية بديلًا“.
القطاع الفندقي أصبح في الهاوية، يعيش اليوم أسوأ أزماته، التي تفاقمت بفعل تداعيات انتفاضة 17 تشرين وكورونا، وقبلهما انكفاء السائح الخليجي والأزمات السياسية. “الإشغال الفندقي صفر، فأوتيل كـ”فينيسيا” على سبيل المثال يملك 462 مفتاحًا، من ضمنها أجنحة، ولا يمكن أن نعتبر أنّ إشغال سبع غرف من ضمن العدد الإجمالي في “فينيسيا” هو إشغال، وكذلك الفندق الذي يملك مئة غرفة لا يُعتبر أنّه يعمل بوجود زبون. كنا قد سلّمنا وزير السياحة في الفصل الأخير من عام 2018 ملفًا متكاملًا يظهر تراجع مداخلينا بنسبة % 40 ، ولم يتحركوا، توالت الخسائر ولم يبالوا، في وقت يُعتبر تراجع مماثل بنسبة 15% في دول العالم، بمثابة كارثة على القطاع الفندقي“.
أزمة الفنادق تنعكس بطبيعة الحال على موظفي القطاع، وعددهم يقارب 24 ألف موظف خارج الموسم السياحي، يرتفع العدد خلال الموسم، وهؤلاء مهدّدون بلقمة عيشهم. حال الفنادق في لبنان متشابه يقول الأشقر “تلك التي كان وضعها ممتازًا بين عامي 2009 و2010، أضحى متعثرّا اليوم. وتلك التي كانت تقوم باستثمارات في العامين المذكورين، اقترضت من المصارف، ونتيجة الأزمة وضعف الحركة اصبحت الآن على أبواب الإفلاس. وعندما تعجز المؤسسة عن دفع رواتب العاملين فيها وتسديد الضرائب والديون، تصل إل مرحلة الإفلاس وهو مرادف للإقفال“.
إقفال “الحبتور” و”البريستول” يتعدّى حال فندقين أو حتّى أزمة قطاع برمّته، ليجسّد حكاية وطن حلّت بجغرافيته لعنة المحاور، فأحال أقطابها الوطن ساحة لصراعاتهم، وزجّوا بالنفس “الوطنية” في النيران الإقليمية، وخلقوا بين لبنان وأشقّائه العرب لاسيّما الخليجيين توترًا، جعل السائح والمستثمر الخليجي ينكفىء، وهو عماد السياحة، فضربوا القطاع السياحي أحد أبرز دعائم الإقتصاد اللبناني، وها هم يكملون نهجهم التدميري.
ماذا بعد؟ هل سيجعلكم إقفال “البريستول” تقفون برهة، لتدركوا أيّ جرم تقترفون بحق وطن وشعب ومؤسسات؟