“لا يقوم مصرف لبنان بالتنسيق مع السلطة التنفيذية حيال القرارات التي يصدرها. وسيكون لي كلام وموقف بعد جلسة الحكومة الجمعة المقبل” (اليوم). ونفى رئيس الحكومة حسّان دياب الذي كان يجيب عن أسئلة وسائل الإعلام بعد جلسة مجلس النواب في قصر الأونيسكو، أن تكون الحكومة على علم بتعميم مصرف لبنان الأخير عن إمكان المودع بالعملات الأجنبية سحب وديعته بالليرة اللبنانية.
“كثير هيك” يا دولة الرئيس! سيكون كلامك الذي وعدت به عن التنسيق المفقود مع مصرف لبنان في موضعه لو خرجت من جلسة مجلس الوزراء (اليوم) لتعلن قرارات تعيين نواب حاكم مصرف لبنان الأربعة ورئيس لجنة الرقابة على المصارف وأعضاء اللجنة ومفوض الحكومة لدى مصرف لبنان وهيئة الأسواق المالية. التنسيق المفقود مع مصرف لبنان عقودًا، كان أحد جذور أزمة الانهيار المالي والنقدي. حاليًا لا يوجد سلطة شرعية في مصرف لبنان بموجب القانون. أنت تعلم ذلك. يوجد دولة معسرة، ومصرف مركزي معسر، وانهياران مالي ونقدي. وناس يبحثون عن حقوقهم في المصارف. تعاميم مصرف لبنان لا قوة تنفيذية لها. هل يُعقل أن يصدر تعميم عن مصرف لبنان يقول للناس إذا شئتم سحب ودائعكم من العملات الأجنبية بالليرة اللبنانية فإليكم بها ومن دون إبلاغ الحكومة بالتعميم؟ طبعًا أتى التعميم ملغزًا لأن السحوبات تبعًا “لإجراءات ومعايير المصرف المعني”. ثم إيضاح في وقت لاحق “5 آلاف دولار شهريًا فقط لا غير”. وعلى سعر السوق. وسعر السوق اقترب عند كتابة المقالة من 3800 ليرة لبنانية للدولار الأميركي وليس 2600. هل هذا تركة الحكومة السابقة التي باتت هاجسك في الحسابات السياسية، أم عجز عن معالجة التركة التي قلتَ إنها مهمّة حكومتك؟ واضح أن عجز الحكومة عن سدّ الشغور في مصرف لبنان ولجنة الرقابة على المصارف ومفوضية الحكومة لدى مصرف لبنان مردّه إلى نهج الاستحصاص الذي خضعت له الحكومة كسابقاتها. مع من ستنسق يا دولة الرئيس في مصرف لبنان في غياب نواب الحاكم والمجلس المركزي للمصرف؟ طالما قبلتَ الشغور فلماذا الشكوى ولمن؟ يبقى سلامة. نسِّق معه!
حملة لتزوير الوقائع
باتت تعاميم مصرف لبنان أشبه بمسودات الخطط الحكومية الإصلاحية. لا تنفيذ. بوادر حملة مضادة من مصرف لبنان والمصارف، مهّد لها بيان جمعية المصارف الصادر في الأسبوع الماضي. الغاية من الحملة على ما يبدو إظهار الدولة مسؤولًا وحيدًا عن الانهيار. الإعلام المتملّق والمروّج الذي كان انكفأ مع موجة الضغط الشعبي عاد إلى لعب الدور المخجل. نعم المنظومة السياسية على رأس مسؤولية الانهيار. حاكم مصرف لبنان هو مهندس الانهيار. ليس شغل حاكم مصرف لبنان أن يعوّض خسائر مصارف استثمرت في تركيا ومصر والسودان والعراق وأوروبا بأساليب ملتوية أو بقلة دراية ومخاطر. ولم يوجد مصرف لبنان لتسليف الدولة. يطبق قانون النقد والتسليف والقوانين ذوات الصلة فقط. أو يستقيل إذا لم يستطع. والمصارف لم تُرغَم أبدًا على توفير دين لا يستردّ من ودائع مؤتمنة عليها. خصوصًا مع وجود المنفعة والأرباح. لا حاجة لفلسفة وثرثرة.
قبل 24 ساعة من جلسة مجلس الوزراء حطّ رياض سلامة أمس في قصر بعبدا. وكأنه يستبق كلام دياب المقرر أن يدلي به بعد الجلسة. حبذا لو استدعى رئيس الجمهورية ميشال عون صهره جبران باسيل ليسأل سلامة كيف تمّ تحويل أكثر من 3 مليارات دولار أميركي إلى الخارج بعد كانون الثاني 2020 على ما صرّح باسيل في مؤتمره الصحافي. واضح أن ما عناه باسيل لا يشمل تحويلات مصرف لبنان لتمويل استيراد السلع الأساسية. سلامة بصفاته المتعددة لاسيما رئيس الهيئة الخاصة بمكافحة تبييض الأموال وأموال الإرهاب، يفترض إنه يعلم المصارف التي حوّلت ووجهتها والمستفيد الاقتصادي (أو المستفيدون). يضاف إلى المبلغ المذكور 1.308.262 مليار دولار أميركي خرج في الفترة 18 تشرين الأول 2019 و13 كانون الأول من السنة نفسها. وهو موثقّ لدى مصرف لبنان ولجنة الرقابة على المصارف والهيئة الخاصة بأسماء المصارف وحجم تحويل كل منها.
لا تُعدّ الاجتماعات التي عقدها عون مع سلامة منذ 2017 ولا تُحصى. ولا يتسرّب شيء عن مضمونها. بداية 2017 كانت صورة الانهيار واضحة عند سلامة. تصريحاته كات مغايرة ومطمئنة على الليرة والودائع حتى صيف 2019! وربما يقول يومًا إنه كان ينقل إلى رئيس الجمهورية صورة الوضع على حقيقته. وأحسب أن رئيس الحكومة السابق سعد الحريري كان عارفًا أيضًا.
“تبخّرت”
استمرار التحويلات إلى الخارج يفسّر الهجوم السياسي المباغت على قانون “كابيتال كونترول” وخنقه في المهد. ولم يكن ذلك من قبيل حماية النظام المالي والملكية الفردية وحقوق المودعين، بمقدار ما كان لحماية تحويلات إلى الخارج لمواقع سياسية ومالية نافذة. المودعون الصغار ليسوا معنيين بالأمر. لو صدر القانون كان ليضع ضوابط على تحويلات العملات ويحدّ منها. ويحدّد الحالات التي تسمح بالتحويلات ضمن ضوابط مشددة. وكان سيوصد الباب بإحكام في وجه التحويلات على سبيل الوقاية للهروب من أي اقتطاع (Haircut) في سياق إعادة الهيكلة. ليست كل الأموال التي خرجت ولا تزال تخرج على الأرجح مشتبهة. لكن يرجّح أن الأموال المشتبهة الكبيرة قد خرجت في معظمها. بينها ما يطلق عليه الأموال المنهوبة، والانتفاع من ممارسة الوظيفة العامة، والرشى وما شبِه. وهناك أيضًا جانب آخر يتعلق بأموال ناجمة عن تجارة غير مشروعة مخدرات، وأسلحة، ومواد استهلاكية منتهية الصلاح، وأنشطة عصابات منظمّة وعلاقات سياسية وأمنية مشتبهة بالخارج.
قال دياب أن الأموال تبخّرت. هذه أصدق كلمة قالها الرجل. لكن لها تتمة. أنها أموال النافذين من المنظومة السياسية والمالية هي التي خرجت. الباقي لا يصلح أساسًا لـHaircut ولا للتحويل. مصرف لبنان يريد منافسة الدولة على ما بقي من ودائع صغيرة بالعملات الأجنبية ليطفئ ما تيسّر من خسائره ويعوض أصحابها ليرة لبنانية لا قعر لتراجعها ولا مقرّ. ويصرّ سلامة على 2600 ليرة سعر السوق. ويركّب تعاميمه عليه. السعر ليس حقيقيًا. ولا سعر التثبيت الطيب الذكر حقيقي. ولا المنصة التي لحظها تعميم سابق لمصرف لبنان لتحديد سعر السوق بنيت بعد. هنا سلامة يخالف تعميمه!
هذه المهزلة بين الحكومة وبين سلامة يجب أن تتوقّف فورًا قبل الفوضى العارمة.