نص الورقة
وفي ما يلي نص الورقة:
“إن العمل الذي قامت به الدولة اللبنانية مؤخرا لجهة وضع برنامجا للإصلاح المالي، هو عمل جدي إذ أنه للمرة الأولى نجد أننا أمام مقاربة علمية واقعية جديرة بالمناقشة.
وقد قمنا في الهيئات الإقتصادية بدراسة معمــقة لهذا المشروع وخرجنا بالملاحظات والاقتراحات التالية:
لقد اصبح لزاما أن تقوم الحكومة بالانخراط في برنامج صندوق النقد الدولي بدون تأخير، لأن ما هو ممكن الآن سيصبح صعبا جدا في الاسابيع المقبلة، كما اننا لا نملك ترف إضاعة المزيد من الوقت للبدء بهذا البرنامج.
أولا: في ما خص تخفيض العجز تدريجيا للوصول الى فائض
من البديهي أن يتم ذلك من خلال تخفيض المصاريف وزيادة الايرادات.
1- المصاريف:
إن كل الأرقام الواردة ضمن الدراسة التي بين أيدينا هي أرقام نسبية مستندة الى نسب مئوية (Percentages & Ratios). ونحن نعتقد أن النسب المذكورة في الدراسة تعتمد على أرقام إفتراضية مثل الناتج المحلي وهو رقم تقديري بالنظر الى تراجع النمو وعدم إمكانية تحديده للسنوات 2020 و2021، في حين ان الأرقام المتعلقة بمصاريف الدولة هي أرقام معروفة سلفا ومحددة بـ 24 ألف مليار ليرة سنويا تقريبا.
لذلك، يجب أن نجد في الدراسة اولا ما يؤكد الالتزام الفعلي بتخفيض حجم القطاع العام، وكذلك بتحديد رقمي لتخفيض المصاريف والإجراءات المنوي إتخاذها ومن ضمن مهل زمنية محددة، كاقفال مزاريب الهدر ومنها الصناديق غير المجدية وخفض عدد الأجراء والمتعاقدين والغاء الإيجارات الشاغرة وغير الضرورية وكيفية ضبط الذين لا يلتزمون بالدوام أو لا يعملون.
لم نجد في الدراسة أية آلية أو رقما محددا لتخفيض العجز، ونرى أن خفض النفقات خجولا نسبة لما هو مطلوب.
فكتلة أجور القطاع العام لا يجب أن تتعدى الـ6 في المئة من الناتج القائم، كما أن العلاج ليس فقط بتجميد التوظيف بل الإستغناء عن الفائض وخاصة الذين تم توظيفهم بطريقة مخالفة للأصول والقانون، وانطلاقا منه لا نجد أي مقاربة في تغيير أسس نظام المحاصصة والتبعية السياسية المعتمدة، غير أنه من الضروري التوصل الى وفر لا يقل عن إثنين في المئة من الناتج القائم في إصلاح النظام التقاعدي في القطاع العام.
أما بالنسبة لموضوع الكهرباء فلا تزال الأمور على حالها ومقاربة زيادة الانتاج قبل رفع التعرفة قائمة بينما ينبغي في هذا الظرف الاسثنائي زيادة التعرفة على الشطور لكي تعطي الحكومة الاشارة بجدية المعالجة وليس البناء على نفس التعرفة لأسباب شعبوية.
2 – الإيرادات:
لا يختلف إثنان على وجوب تحسين إيرادات الدولة، لكننا نعتقد انه لا يجب فرض ضرائب جديدة في فترة الركود التضخمي (Stagflation) لأن ذلك سيؤدي حتما الى تسريع الإنهيار، في حين انه لا يزيد الجباية على الاطلاق.
وللتذكير، إن زيادة الضرائب غير المدروسة في الأعوام 2017 و2018 و2019 على التوالي ضربت مقومات الإقتصاد الوطني وسرعت في إقفال وإفلاس عدد كبير من الشركات والمؤسسات. كما ان زيادة نسبة الضريبة على شطر المدخول الاعلى من 21% الى 25% لم يؤد الى أي زيادة بالواردات بل العكس تماما.
وهنا تطالب الهيئات الإقتصادية بإعفاء كامل من غالبية الضرائب والرسوم لسنة 2020، إضافة لتسوية شاملة لكافة الضرائب المستحقة حتى نهاية سنة 2019، الأمر الذي سيوفر مبالغ وفيرة للخزينة.
وهنا لا بد من لفت النظر الى أن الأرقام أثبتت أن زيادة الضرائب تؤدي الى انخفاض في حجم الأعمال وبالتالي في الواردات. كما أنه يجب التقيد بالأصول القانونية المطبــقة لشركات الـOffshore والـHolding في هذا الوقت، في حين أنه علينا تشجيع هذه الشركات على البقاء والمحافظة عليها.
وبحسب الخبير القانوني البروفسور نصري أنطوان دياب، فإن بالأشارة الى بند “تدابير لتعزيز الإيرادات” الى “إلغاء الإعفاءات الضريبية على الأرباح ومكاسب رأس المال في شركات الـ Offshore والـHolding”، هو إجراء سيء لأسباب متعددة:
أ- إن انشاء تلك الشركات سمح بجذب العديد من الأعمال والأشغال للمحامين والمحاسبين وكتــاب العدل والموظفين، ودعم الصناديق الإجتماعية التابعة.
ب- إن إلغاء الإعفاءات الضريبية لشركات الـ Offshore سوف يدفعها الى اللجوء الى دول أخرى مجاورة ونكون بذلك قد خسرنا الكثير من الإيرادات.
ج- ان الإيرادات لشركات الـHolding خاضع للضريبة ورفعها يؤدي الى ازدواجيتها ومضاعفتها ويدفع أصحابها للتخلي عنها.
ه- ان نشاط شركات الـ Offshore تتم في الخارج وهي موضع تدقيق من قــبل وزارة المالية وبذلك لا يمكن أن تتهرب تلك الشركات من الضريبية كما هو مزعوم.
و- ان إلغاء الوكالات الحصرية هو إجراء غير مستحب لأن المراسيم تعطي حماية للوكيل تجاه المورد الأجنبي وذلك قد إجتذب عددا كبيرا من الأعمال والأشغال ويشكل حماية في وجه الدخلاء وضمانة للجودة وخدمة ما بعد البيع، مع التذكير ان قطاعات اساسية مثل الأغذية والادوية غير مشمولة بالوكالات الحصرية.
لذلك نعتقد ان تحسين الجباية يجب ان يتم بـ:
” توسيع قاعدة المكلفين وضبط التهرب الضريبي.
” مكافحة التهرب الجمركي واقفال المعابر غير الشرعية.
” احصاء الاقتصاد الرديف وضمه الى دائرة المكلفين .
” الالتزام الجدي بوضع الحكومة الالكترونية حيز التنفيذ وبذلك يصبح من الممكن تخفيض كتلة الاجور ورفع مستوى الشفافية وخفض الفساد.
ثانيا: إعادة تكوين الجهاز المالي في لبنان
يقتضي التأكيد، ان المسؤولية الأولى للأزمة تقع على عاتق السلطتين التنفيذية والتشريعية اللتين انفقتا على القطاع العام وكذلك على الفساد الذي يضرب كل مفاصل الدولة، لذلك فإن الهيئات الاقتصادية ترى ضرورة ان تعمل الخطة على معالجة هذه الآفة بإنصاف ومن دون تجني، وأن لا يجري ضرب الثقة بالقطاع المصرفي ومصرف لبنان كضحية بديلة عن المسؤول الحقيقي.
وترى الهيئات ان الجهة التي يجب أن تتحمل الخسائر هي الجهة التي استدانت هذه الأموال واستفادت منها وليس مصرف لبنان والمصارف. وتحذر من أن تؤدي اجراءات الخطة الى هروب المستثمرين والمودعين مستقبلا، وترفض رفضا مطلقا تغيير وجه لبنان الاقتصادي وتحويله من اقتصاد ليبرالي حر الى اقتصاد تديره سلطة سياسية.
كما انه ليس المطلوب ان يتم إطفاء مجموع الخسائر المتراكمة فورا، إنما المطلوب وضع خطة واضحة لاستيعابها خلال فترة زمنية يتم تحديدها. وكذلك يجب فصل خسائر مصرف لبنان عن الخسائر المنسوبة للمصارف، وعدم الخلط بين الجهتين خاصة وأن لمصرف لبنان التزامات تجاه المصارف التي هي في الواقع تدابير لحماية المودعين كما هو شأن الاحتياط الالزامي على الودائع بالعملات الأجنية الذي يحتفظ به مصرف لبنان والذي يشكل التعرض له بالاستعمال استنزافأ لحقوق المودعين في المصارف.
في الواقع ان الدولة هي المسؤولة المباشرة عن كل الديون التي استفادات منها والتي تصنفها اليوم في خانة الخسائر لغياب الرغبة بتسديدها.
علما ان لبنان من الدول الغنية بموجوداته التي يمتلكها بمحفظته وعلى سبيل المثال:
– مساحة ممسوحة تفوق مساحتها مليار متر مربع، وقد تم تقييم قيمتها من قبل وزير المالية بأكثر من مليار دولار.
– مشاعات في كل المحافظات لم تمسح بعد.
– شركة انترا للاستثمار وما تملكه من عقارات وشركات واستثمارات (كازينو لبنان).
– شركة طيران الشرق الاوسط التي يملك اسهمها مصرف لبنان.
– المرافىء البحريه (بيروت وطرابلس وصيدا وصور) والجويه مطار (بيروت والقليعات ورياق).
– ادارة حصر التبغ والتنباك (الريجي).
– شركتا الخلوي، ومؤسسة أوجيرو.
– مصلحة سكك الحديد والنقل المشترك.
– شركات الكهرباء والمياه.
– دون أن ننسى مخالفات الأملاك البحرية.
كل هذه الموجودات وغيرها قادرة الدوله على استثمارها بأشكال مختلفة لتأمين السيولة للخروج من الازمة المالية الحالية، ويمكن للدوله تفعيل النقل العام وغيره من الادارات التي بحاجة الى تمويل لتشغيلها على طريقة (بي او تي).
في ما خص المصارف،
إن الهيئات الاقتصادية لا توافق على المقاربة الجامدة Static للتقييم الموجودات ومحافظ المصارف لا سيما سندات الدين والديون المشكوك بتحصيلها NPL (Non performing loans) وضماناتها.
علما انه لدى المصارف الكثير من العقارات التي استملكتها من زبائنها عبر الوقت ايفاء بالعوض Dation وتم تسجيلها بحسب “قيمتها التاريخية” في وقت ان قيمتها الفعلية تبلغ اضعاف قيمتها الدفترية ومن الضروري إعادة تقييمها وزيادة قيمتها المضافة الى رأسمال المصارف.
إذا، بحسب رأينا يمكن للمصارف وبعد تحديد الخسائر والقيام بإعادة جدولة وهيكلة الدين العام والدراسة الفعلية لمحفظة الديون المتعثرة، زيادة رسملتها إذا إقتضت الحاجة.
يتبين اذا انه لا ضرورة للمس بأموال المودعين ووضع مستقبل لبنان في خطر، خاصة وان معظم هؤلاء المودعين هم من المغتربين الذين جاهدوا لتكوين ثرواتهم التي لا يجوز المساس بها لا دستوريا ولا قانونيا ولا انسانيا. كذلك ان هناك جزء كبير من هذه الودائع أصحابها من العرب الذين وثقوا بنظامنا المصرفي وأمنوا له. كما ان البلد يعول بشكل أساسي على هؤلاء المودعين في خطة إعادة النهوض، لذلك لا يجب المساس بودائعهم وهز الثقة بنظامنا المصرفي وتخويفهم والا فقدنا اية إمكانية مستقبلية لاستقطابهم وجذب الاستثمارات، معرضين بذلك مستقبلنا للخطر والمجهول.
ثالثا: الحاجة الفورية للسيولة
تشير الدراسة الى الحاجة لمساعدة خارجية بغية ضخ أموال جديدة تساهم في إعادة دوران العجلة الاقتصادية، وابرز الخيارات المطروحة هو اللجوء الى صندوق النقد الدولي والتفاوض معه على برنامج ملائم للبنان.
نحن نعتقد ان صندوق النقد الدولي هو الخيار الوحيد الآن، لذلك علينا اللجوء الى طلب مساعدته والمفاوضة حول خطة متكاملة نعرض فيها خياراتنا وإمكانياتنا وموجوداتنا التي نحن على استعداد لإعادة تقييمها واستثمارها وكذلك الاصلاحات التي ننوي وضعها حيز التنفيذ.
مع العلم ان اللجوء الى صندوق النقد يشكل ضرورة لإعادة الثقة الى الدائنين والمستثمرين الجدد الذين نحن بحاجة ماسة اليهم والذين سوف ينظرون الى إشراف صندوق النقد الدولي ورقابته كضمانة لحسن سير الامور.
كل ذلك يكون من ضمن خطة إصلاحية شاملة وجدية مترافقة مع حوافز ضريبية، لتشجيع المستثمرين الجدد وتوسيع الجباية والحد من التهرب الجمركي، إضافة الى التأكد من استقلالية القضاء الذي يشكل حجر الأساس في العملية الإصلاحية، وتحسين أدوات الرقابة على أنواعها وضبط الهدر وإقفال الصناديق التي لا لزوم لها بحيث نصل الى فائض بدلا من العجز الحالي في الموازنة.
رابعا – تعزيز القطاعات المنتجة
ان تعزيز وتحفيز القطاعات المنتجة مثل الصناعة والزراعة والسياحة والعمل على زيادة الصادرات الصناعية والزراعة والخدماتية، من شأنه أن يلعب دورا حاسما في تقليص العجز في الميزان التجاري، وتحويل ميزان المدفوعات من عاجز الى فائض.
لقد تقلصت مساهمة القطاع الزراعي من 12% الى 4% من الناتج المحلي، وانخفضت قيمة صادراته الى 400 مليون دولار سنويا. من هنا ضرورة تعزيز القطاع الزراعي بالانتقال الى انواع زراعات جديدة ذات قيمة مضافة عالية واعتماد التقنيات الحديثه، وقد تم مؤخرا تشريع زراعة القنب لدواع طبية.
كما تقلصت مساهمة القطاع الصناعي من 18 % الى 10 % من الناتج المحلي، ولا تتجاوز مجموع صادراته 3 مليارات دولار، ولا بد هنا من اتخاذ كل الاجراءات لدعم هذه القطاع الانتاجي بكل الطرق والامكانيات المتاحة ليعود ليأخذ دوره الاساسي في الاقتصاد الوطني.
كذلك تقلصت مساهمة القطاع السياحي من 20 % الى 5 % من الناتج المحلي، بسبب الاوضاع المضطربة محليا واقليميا من هنا يجب تهيئة وتوفير الظروف السياسية الملائمة والتركيز على السياحة بمختلف انواعها وتوفير الاجراءات التحفيزية الملائمة.
وهذا من دون إغفال مصالح القطاعات الاقتصادية الاخرى وحاجاتها، لا سيما التقليدية منها مثل التجارة والناشئة مثل قطاع المعرفة، علما ان الاقتصاد المنتج هو الذي يخلق فرص عمل ويجذب الاستثمار.
لذلك، اننا نتمنى على الدولة، اليوم، ان تستكمل الخطة المالية بخطة اقتصادية متكاملة، وان لا تكتفي بجملة تدابير مالية تهدف فقط الى معالجة الازمة المالية والدين العام. وطموحنا هو وضع لبنان على سكة اقتصادية جديدة اساسها النمو الاقتصادي.
ختاما، وإذ تضع الهيئات بين ايديكم هذه الورقة، فإنها تبدي استعدادها للحوار حول مضمونها”.