يريد رئيس التيار الوطني الحر جبران باسيل من الحكومة الاعتراف بأنّ عشرات مليارات الدولارات من الودائع “راحت”، وأنّ الحل الوحيد المطروح أمام اللبنانين هو تسليمه كلّ ما تمتلكه الدولة من مطارات ومرافئ وشركات طيران واتصالات وكهرباء وأملاك بحرية، ليتولّى هو، مع فريقة السياسي “إعادة تكوين” الودائع، من دون مهلة زمنية.
هذا هو الملخّص الوافي للمضمون الاقتصادي لرسالة باسيل إلى اللبنانيين في كلمته الأحد الماضي.
يمارس الرجل نقداً منافقاً للخطة الاقتصادية الحكومية، لينفض يده من المسؤولية عن مآلاتها، سياسياً وشعبياً. يتحدّث عن نقاط قوّة ونقاط ضعف كما لو أنّ المسؤولَيْن المباشرين عن كتابتها ليسا عونيًّيْن حتّى النخاع، بل إنّ أحدهما يحاضر في رؤساء الكتل النيابية ويمثّل لبنان في الاجتماعات مع صندوق النقد الدولي من دون صفة رسمية، سوى قربه من باسيل!
لكنّ صهر الرئيس يبدّد كل شك بأنّه هو واضع الخطة الحكومية وعرّابها حين يسهب في شرح فكرة “الصندوق السيادي الائتماني الاستثماري”، أو ما يصحّ تسميته “صندوق عون”، كآلية لتعويض المودعين. هكذا ينكشف لماذا يطالب باسيل بإخراج الناس من “كذبة أنّ الودائع محفوظة”. وربما الأجدى تسميته “صندوق باسيل”، لأنّ ولاية الرئيس عون تنتهي بعد عامين ونيّف وعمر الصندوق هو من عمر الولاية الرئاسية التالية، التي يخطط باسيل كي تكون ولايته ويُشرف خلالها على “صندوقه”.
يريد باسيل أن يقتنع الجميع بأنّ الحلّ الوحيد المطروح لـ”إعادة تكوين” الودائع هو إنشاء صندوق استثماري يضع تحته كلّ أصول الدولة المنتجة وغير المنتجة، باسم التعويض على المودعين، لكن من دون سقف زمني محدّد. مستشاره الاقتصادي الأقرب شربل قرداحي، وهو أحد العرابَيْن الاثنَيْن للخطة، إلى جانب المدير العام لوزارة المالية آلان بيفاني، يجيب بكلمة “ما بعرف” حين يُسأل عن الوقت الذي ستستغرقه العملية، ثم يردف: “يمكن 7 أو 10 أو 11 سنة”. يرمي الجواب جزافاً، بما يوحي أن الخطة الحكومية لا تحمل أي تصور للعائد الذي يمكن أن يحقّقه الصندوق، وقيمة الأصول التي سيضمها، والنسبة التي بالإمكان طرحها للمودعين من رأسماله.
الصندوق، بالشكل الذي يتبناه التيار العوني، لا يحقق مصالح المودعين، ولا يمكن بأي حساب أو هندسة للأرقام أن يعيد أموالهم، ولو بعد عشرين سنة، لكنه يحقق هدفاً واحداً، هو هيمنة المتنفذين في التيار وحلفائهم على موجودات الدولة الثمينة.
يمكن العودة إلى الورقة “الإصلاحية” التي قدمها التيار الوطني الحر في 17 أيلول 2019، أي قبل ثورة 17 تشرين، للتأكد من أنّ فكرة الصندوق السيادي التي تًعدّ العمود الفقري للخطة الحكومية، سابقة على أزمة الودائع! الفارق أنّها كانت مطروحة بذريعة تخفيض الدين العام، وباتت ذريعتها الآن رد أموال المودعين.
الحل الوحيد المطروح أمام اللبنانيين تسليم باسيل كل مطارات الدولة ومرافئها والكهرباء والاتصالات و”الميدل إيست” لـ”إعادة تكوين” الودائع خلال 20 سنة!
تقترح ورقة 17 أيلول، المنشورة على الموقع الإلكتروني لباسيل، أن تُنقَل إلى الصندوق الاستثماري السيادي ملكية طيران الشرق الأوسط وشركة إنترا للاستثمار، المالكة لكازينو لبنان، وغيرها من المؤسسات . كما تقترح أن تُنقل إلى عائدات عمليات تسنيد حقوق الدولة الحصرية في مجالات الثروات السيادية كالاتصالات والأملاك العامة (بما فيها الواجهات البحرية والأملاك النهرية)، والمواصلات بما فيها المعابر والمرافئ وسكك الحديد والأجواء (المطارات وربما حقوق العبور في الأجواء)، وألعاب الميسر.
تحوّل مقترح أيلول 2019 إلى خطة حكومية الآن، يتولّى باسيل نفسه شرح تفاصيله، متجاوزاً رئيس الحكومة ووزير المالية وجميع الوزراء. يقول إنّ الصندوق سيدخل في “كل قطاعات الدولة ويؤمّن العدالة والمساواة بين المواطنين في الكهرباء والمياه والاتصالات والمواصلات والنفايات والنقل”. ويوسع نطاق الصندوق ليشمل إنشاء “سكك حديد داخلية ومع الخارج في سوريا والعراق والأردن، (وإنشاء) معامل الكهرباء، و(تطوير) مطار رياق وحامات والقليعات، وإنشاء مرفأ جونية السياحي وتطوير المرافئ التجاريّة، والمضي بمشروعي لينور واليسار”، إضافة إلى “تجميل الشاطئ وردم ما يلزم وإنشاء أشباه جزر سياحية وبيع الأراضي بالمليارات لصالح الدولة”.
بكلام آخر، لا يبقي الصندوق شيئا من موارد الدولة المالية لا يهيمن عليه، باستثناء الضرائب. ويجب على اللبنانيين أن يثقوا بكفاءة من سيتولّون إدارة الصندوق، وقدرتهم على تحقيق ما يكفي من الأرباح لإعادة تكوين الودائع التي “راحت”.
لندع جانبا التناقض بين قول باسيل إن الدولة لا ينبغي لها أن تتنازل عن شيء من أصولها لمعالجة الأزمة الراهنة ومناداته بتعويض المودعين بوحدات ملكية في الصندوق العتيد، ولندقق في واقعية ما هو مطروح.
ما هو مطروح ليس إلا وهماً زائفاً، أقلّه لأنّ الفكرة برمّتها تراهن على تحقيق العوائد من مشاريع البنية التحتية الكبرى، وهي مشاريع لا تقل دورتها الاستثمارية عن عشرين سنة.
وفوق ذلك، لا يسمح هيكل الملكية الذي يحكى عنه بتحقيق المرتجى منه. فبحسب العرّاب باسيل، “سيُفتح الباب للاكتتاب أمام المودعين والمصارف بأسهم محدّدة بأرباح صغيرة، وأمام المستثمرين والمنتشرين بالأولوية، بأسهم محدّدة بأرباح كبيرة”. أي أنّ المودعين والمصارف سيصبحون مالكي وحدات (units) في الصندوق. لكن بأي نسبة؟