قد لا تشكل الدولة اللبنانية هدفا مباشراً لقانون “قيصر” الأميركي، إلا أن اقتصادها سيكون من دون شك في مرمى العقوبات، لما له من ارتباطات على مختلف المستويات الرسمية منها والخاصة، ما يحتّم على السلطات اللبنانية البحث بعمق في ملفاتها وآلية التعامل مع قانون العقوبات الأميركي، وفق ما تقتضيه مصلحة البلد العليا.
يستهدف قانون “قيصر” بشكل واضح “كل شركة أو كيان أو حتى أفراد من الداخل السوري أو من أي دولة خارجية للعقوبات، إذا ما دخلوا في علاقات تجارية مع النظام، أو قدّموا الدعم العسكري والمالي والتقني”.
من هنا، تستحضرنا عشرات الأسئلة حول مصير العديد من القطاعات الاقتصادية اللبنانية والشركات الخاصة نظراً لارتباطها مع سوريا دولة ومؤسسات، إن بحكم الموقع الجغرافي أو لكون سوريا تشكل المنفذ البري الوحيد أمام لبنان على الشرق الأوسط والعالم، فما هو حجم العلاقات الاقتصادية التي تربط لبنان بسوريا؟ وما المقصود بالدعم المالي للنظام السوري؟ وهل يُعد دفع ثمن استجرار الكهرباء من سوريا دعماً مالياً؟ وهل استمرار حركة التبادل التجاري بين لبنان وسوريا مخالف للقانون، وقد يعرّض المؤسسات والتجار اللبنانيين إلى العقوبات؟ وهل يُعتبر سداد الرسوم للجمارك السورية عند مرور البضائع اللبنانية إلى الدول العربية مخالفاً لقانون قيصر؟ والأخطر، هل تُعتبر مساهمة المصارف اللبناية في المصارف السورية تعاملاً مالياً مع النظام السوري بشكل غير مباشر؟ وما مصير الاتفاقيات الثنائية بين البلدين؟
علاقات تجارية
لا يقتصر قانون قيصر الأميركي على وقف كافة خطوط ومداخل البضائع والعملة الصعبة إلى الدولة السورية عن طريق التهريب وحسب، بل أيضاً عبر العلاقات الرسمية بين البلدين، من تعاملات مالية واقتصادية وتعاون وتبادل واستثمارات وإيداعات وغير ذلك.
لا يوجد دراسات أو إحصاءات دقيقة عن حقيقة التبادلات التجارية بين لبنان وسوريا، سوى دراسة واحدة أعدّها الخبير الاقتصادي توفيق كاسبار، قبل انطلاق الحرب السورية عام 2011، جزم فيها أن “الأرقام المسجلة لتجارة البضائع التي تتيحها دائرة الجمارك هي أدنى بكثير من الأرقام الفعلية، لسبب رئيسي متصل بالتهريب الحاصل في الاتجاهين”.
وحسب حديث كاسبار إلى “المدن”، فإن حركة التبادل التجاري كانت ضعيفة نسبياً قبل الحرب السورية، وقد زادت تراجعاً وضعفاً أكثر فأكثر بعد العام 2011، وهي لا تمثل أكثر من نسبة 4 في المئة فقط من إجمالي الناتج المحلي أو إجمالي المبادلات التجارية، ويرى كاسبار أن العلاقات الاقتصادية بين لبنان وسوريا تراجعت بشكل كبير في السنوات القليلة الماضية.
ووفق أرقام إدارة الجمارك اللبنانية، يبلغ حجم التجارة الخاصة بين لبنان وسوريا في العام 2019 نحو 92 مليون دولار للاستيراد، ونحو 190 مليون دولار للتصدير.
أما لجهة التجارة العامة فيبلغ حجم الاستيراد نحو 92 مليون دولار والتصدير 229 مليون دولار.
ما يعني أن مجمل نشاط التبادل التجاري بين البلدين تقارب 603 مليون دولار.
كهرباء ومصارف وخدمات
تشكّل بعض الملفات ذات الشأن الاقتصادي مصدر قلق للسلطات اللبنانية، لاحتمال تأثرها بالعقوبات الأميركية، أبرزها ملف عبور البضائع اللبنانية إلى الخارج عبر المعابر البرية السورية، والمصارف اللبنانية العاملة في سوريا، وعملية استجرار الكهرباء من سوريا إلى لبنان.
بالنسبة إلى عبور البضائع اللبنانية، لا أرقام دقيقة بشأنها، لا سيما أن البضائع اللبنانية قد تدخل إلى سوريا عن طريق التهريب قبل أن يعاد تصديرها إلى العراق على سبيل المثال.
لكن المعابر البرية بين لبنان وسوريا تشكّل منفذاً أساسياً للبضائع اللبنانية، في ظل ارتفاع تكلفة التصدير بالبحر أو الجو، وفشل التجربة مع بداية الحرب السورية.
أما في ملف الكهرباء، فترتبط الدولة اللبنانية بعقود استجرار الطاقة الكهربائية من سوريا وعقود تشغيل وصيانة.
وقد بلغت قيمة التغذية الكهربائية من سوريا عام 2017 نحو 80 مليون دولار ثم تراجعت إلى نحو 2 مليون دولار عام 2018. ويتم استجرار الطاقة الكهربائية من سوريا إلى لبنان عبر شبكتي ربط رئيسيتين.
تبلغ سعتهما نحو 200 ميغاواط، في حين تقدّر حاجة لبنان إلى الطاقة بنحو 3500 ميغاواط.
وعلى مستوى القطاع المصرفي، فالمصارف اللبنانية، وفق مصادر، قامت منذ سنوات بالحجز على ودائع ضخمة تعود لرجال أعمال سوريين، وذلك تماشياً مع العقوبات السابقة التي فرضت على سوريا. أضف إلى أنها انفصلت عام 2011 عن فروعها الـ7 العاملة في سوريا، وباتت منذ ذلك الحين مصارف سورية ذات مساهمات من مصارف لبنانية.
هذا ما ستطاله العقوبات
ونظراً لارتباط المصارف السورية ومنها تلك التي تستحوذ على مساهمات من مصارف لبنانية، مع المصرف المركزي السوري، وهو المشمول مباشرة بالعقوبات بموجب قانون قيصر، فذلك يعني أن المصارف ستخضع بدورها للعقوبات أو أقله ستتأثر بها، وفق ما يؤكد معاذ مصطفى، المدير التنفيذي لـ”منظمة سوريا للطوارئ”، والذي يشكّل جزءاً من فريق صياغة قانون “قيصر”.
والعقوبات ستطال كافة المصارف التي تتعامل مع المركزي السوري، وتلك التي تضم حسابات مالية لكل شخص أو مؤسسة تتعامل مع النظام السوري، ومنها المصارف ذات المساهمات اللبنانية.
ويوضح مصطفى في حديثه إلى “المدن”، أن البنك المركزي السوري من أهم الأهداف التي يرصدها قانون قيصر.
كما أن هناك لائحة أسماء وكيانات DSN (designated syrian national list) تشملها عقوبات منذ ما قبل قانون قيصر.
وهذه القائمة تستهدف كل الأشخاص الذين يقدمون الدعم للنظام، كذلك المتعاملين مع المشمولين باللائحة، تقع عليهم عقوبات من الدرجة الثانية. وهذا الأمر يشمل الكثير من اللبنانيين، مؤسسات وأفراداً.
قانون قيصر يطال القطاع الخاص كما القطاع العام السوري، خصوصاً في حال ثبوت دعم أو تعاون أو شراكات بين مؤسسات القطاع الخاص وأشخاص مدرجة أسماؤهم على لائحة العقوبات، يقول مصطفى. فمثلاً في حال وجود شخص أو مؤسسة أو شركة أو مصرف أو أي كان على علاقة بمؤسسة عامة سورية يمدها بأي نوع من المساعدة أو الدعم أو يربطه بها عمل، فإن العقوبات ستطاله حكماً، كالشراكات والاستثمارات التي يبنيها سامر فوز أو رامي مخلوف أو أي شخص آخر له علاقات مع النظام السوري من قريب أو بعيد.
أما عما إذا كانت عملية استجرار لبنان الكهرباء من سوريا ستتأثر سلباً بالعقوبات، فيوضح مصطفى أن المسألة ترتبط بضخامة العلاقة التبادلية بين الدولة اللبنانية والنظام السوري، “ومن المتوقع أن يتم الأخذ بالاعتبار مدى حاجة لبنان إلى الكهرباء التي يتم استجرارها من سوريا، وحجم المبالغ التي يتم تحويلها إلى النظام لقاء تلك الكميات من الطاقة”.
ويلفت مصطفى إلى أن القانون لا يستهدف عقاب الشعب اللبناني، إنما الحد من مدّ النظام السوري بالدعم المالي.
كذلك الأمر فيما خص عبور البضائع اللبنانية من البوابة السورية إلى الدول العربية.
يوضح مصطفى ان قانون قيصر سيتعامل بصرامة مع الداعمين المباشرين والأساسيين للنظام، مع استثناء كل ما يتعلق بالمدنيين وبالإمدادات ذات الطابع الإنساني والحاجات الضرورية.
لافتاً إلى أن العقوبات ستتم وفق أولويات. أي من خلال تحديد شكل وآلية الدعم السياسي والاقتصادي وغير ذلك للنظام السوري.. “أما العبور بالبضائع عبر سوريا فلا أعتقد ان توضع ضمن الأولويات بالنسبة للعقوبات”، يقول مصطفى.
ويشدد مصطفى على أن الهدف من القانون الإضرار بمصالح النظام السوري، مع استثناء مصالح المدنيين، علماً أن أي إجراء قابل للتعديل فيما بعد، وفق مقتضيات الحاجة “كما سيتم التركيز على فرض عقوبات مباشرة على كل من يساهم بإعادة الإعمار في سوريا.
فالشركات التي تسعى لمشاركة النظام في الإعمار ستتعرض مباشرة للعقوبات الأميركية”.
هل من استثناءات
لا يرتبط لبنان بالاقتصاد السوري عبر بوابة المصارف والتبادل التجاري فقط، بل تشمل العلاقات عدداً كبيراً من القطاعات، من بينها الاستثمارات السورية في لبنان، والتي ازدادت مع بداية الحرب السورية. أضف إلى التدفقات المالية التي يقف وراءها مئات آلاف العمال السوريين في لبنان.
أما فيما خص الاستثناءات من قانون العقوبات، فلا يمكن التيقن بشأنها اليوم.
وفي حال تم التشدّد في تنفيذ العقوبات، ولم تشمل استثناءات فيما يتعلق بالاقتصاد اللبناني، لاسيما لجهة استجرار الكهرباء وعبور البضائع اللبنانية، فذلك سيشكّل تكبيلاً وضرباً للاقتصاد اللبناني، يقول الخبير الاقتصادي الدكتور كامل وزني، في حديثه إلى “المدن”.
لذلك، يجب أن تتم دراسة البُعد الاقتصادي والاجتماعي لتطبيق قانون قيصر.
فمهما حاولت السلطات اللبنانية التعويض عن المعابر البرية السورية، لتصدير المنتجات والبضائع اللبنانية إلى الخارج، سيكون من الصعب تحمل تبعات تعليق التصدير عبر سوريا، لاسيما أن الدولة اللبنانية أجرت تجارب في وقت سابق للتصدير عبر المنافز البحرية والجوية. لكنها أثبتت فشلها رغم دعمها مادياً.
من الصعب حالياً معرفة تداعيات قانون قيصر على لبنان، وتوجه الدولة اللبنانية بالتعاطي مع العقوبات على النظام السوري ومموليه.
لكن من غير المستبعد أن يكون لبنان في صلب تداعيات العقوبات، إذا لم يلتزم بضبط المعابر الشرعية وغير الشرعية.
فشد الخناق سيحصل على لبنان وسوريا على السواء.
هذا ما يلحظه مدير معهد الشرق الأوسط للشؤون الاستراتيجية سامي نادر في حديثه إلى “المدن”.
فالعقوبات الأميركية ستطال الأركان المالية والعسكرية للنظام والبنك المركزي السوري، وكل من يتعامل معه ويدعمه، من بينها المصارف السورية التي عليها إقفال حسابات الاشخاص الداعمين للنظام، أو الخاضعين للعقوبات. أما في ما خص المصارف اللبنانية في سوريا، فيرى نادر أنه يجب التدقيق في طبيعة علاقاتها مع البنك المركزي السوري والحسابات التي تحويها.