لم يعد مصطلح “تراجع سعر الصرف” كافياً لوصف ما جرى لليرة السوريّة طوال الأيام الماضية. فالمسألة تجاوزت ذلك لتتحوّل إلى سقوط مُدوٍّ وغير مسبوق لقيمة الليرة السوريّة، مقابل الدولار الذي انفجر سعره في السوق السوداء. فبعد أن تخطّى سعر الصرف حاجز الـ2000 ليرة سوريّة مقابل الدولار في 4 حزيران الماضي، تجاوز مستوى 3175 ليرة مقابل الدولار يوم الإثنين 8 حزيران، بحسب موقع الليرة اليوم. وبمعنى آخر، خسرت الليرة السوريّة ما يقارب الـ59% من قيمتها خلال ثلاثة أيام فقط، ويبدو أنّ هذا المسار مستمرّ على هذا النحو خلال الأيام المقبلة.
ارتدادات الزلزال النقدي الذي تعيشه سوريا باتت واضحة للعيان في كلّ أنحاء البلاد، فالغالبيّة الساحقة من تجار أسواق الشام الكبرى، مثل الحريقة ومدحت باشا والبزوريّة وغيرها، أقفلوا محالّهم كي لا يتحمّلوا خسائر ناتجة عن فرق سعر الصرف اليومي الكبير. فيما فضّلت قلّة من التجار فتح أبوابها للبيع بالمفرّق فقط مع الامتناع عن البيع بالجملة. وفي هذه الأثناء، شهدت صيدليّات دمشق اكتظاظاً غير مسبوق، نتيجة تهافت السوريين على شراء بعض أصناف الأدوية خوفاً من انقطاعها أو ارتفاع أسعارها خلال الأيام المقبلة. أما الصرّافون، فلجأ معظمهم إلى الامتناع عن بيع الدولار الأميركي بانتظار جلاء المشهد، خصوصاً مع وجود توقّعات باستمرار وتيرة الانهيار في سعر الصرف على حالها في الآتي من الأيّام.
خارج العاصمة دمشق، كانت الأخبار تتوالى عن لجوء المجلس المحلي لمدينة أعزاز إلى الطلب من السكّان التعامل بالليرة التركيّة عوضاً عن الليرة السوريّة، فيما طلب المجلس المحلي لمدينة مارع من السكان تثبيت الاتفاقات الصغيرة والمتوسطة بالليرة التركية والكبيرة بالدولار الأميركي، كون المدينتين تقعان تحت سيطرة قوات المعارضة السوريّة الموالية لتركيا في مناطق شمال حلب. وفي المناطق التابعة للإدارة الذاتيّة شمال وشرقي سوريا، صدرت قرارات تقضي بالامتناع عن تحديد أسعار لشراء محاصيل الحبوب من المزارعين، بانتظار استقرار سعر صرف الليرة السوريّة ليتم التسعير على هذا الأساس.
في الواقع، وبحسب مصادر عدّة متابعة للملف الاقتصادي السوري، لا يمكن فصل التطوّرات المفاجئة عن عاملين مستجدّين على الساحة السوريّة. فدخول قانون قيصر حيّز التنفيذ في بداية هذا الشهر أدّى إلى حالة خوف لدى شريحة واسعة من التجّار السوريين، الذين عمدوا إلى محاولة تكديس السيولة النقديّة الموجودة بحوزتهم بالعملات الصعبة. كما ساهمت الضربات التي وجّهها النظام إلى ابن خال الرئيس السوري ورجل الأعمال رامي مخلوف في إثارة المزيد من القلق لدى رجال الأعمال الكبار. القلق من إمكانيّة لجوء النظام إلى إثارة نزاعات ماليّة مع رجال الأعمال الكبار، تزامناً مع تفاقم الضغوط الماليّة التي يتعرّض لها. وهكذا، دفع هذا العامل باتجاه المزيد من الطلب على الدولار في السوق المحلّي.
تقاطعت العديد من العوامل للضغط باتجاه الانفجار النقدي الحاصل اليوم، لكن الخوف بات بتعلّق بسيناريوهات ماليّة مخيفة، على نمط النموذج الفنزويلي، مع فارق كبير يكمن في امتلاك النظام الفنزويلي موارد طبيعيّة كبيرة لا يملكها النظام السوري اليوم
لكنّ الضغوط النقديّة التي تتعرّض لها الليرة السوريّة اليوم ترتبط أيضاً بالتطوّرات الحاصلة في المشهد الاقتصادي اللبناني. فالمصرف المركزي السوري يلزم شركات تحويل الأموال في سوريا بتسليم التحويلات الواردة من الخارج بالليرة السورية، ووفق سعر صرف لا يتجاوز مستوى الـ700 ليرة سوريّة مقابل الدولار الواحد، وهو ما يقلّ كثيراً عن سعر الصرف الفعلي في الأسواق. باختصار، كان استلام التحويلات بهذه الطريقة داخل سوريا يعني ببساطة خسارة معظم قيمة الحوالة. ولذلك، كان لبنان المتنفّس الوحيد الذي يسمح للسوريين باستلام التحويلات الواردة بالدولار النقدي، من شركات التحويل العاملة على الأراضي اللبنانيّة. لكنّ شركات تحويل الأموال في لبنان انتقلت أيضاً إلى تسليم التحويلات الواردة من الخارج بالليرة اللبنانيّة، عملاً بقرار مصرف لبنان الوسيط رقم 13220، ما أدّى إلى خنق مصدر أساسي من مصادر الدولار النقدي في سوريا.
تقاطعت العديد من العوامل للضغط باتجاه الانفجار النقدي الحاصل اليوم، لكن الخوف بات بتعلّق بسيناريوهات ماليّة مخيفة، على نمط النموذج الفنزويلي، مع فارق كبير يكمن في امتلاك النظام الفنزويلي موارد طبيعيّة كبيرة لا يملكها النظام السوري اليوم. وبذلك، هناك ما يوحي بإمكانيّة توجّه البلاد نحو انفجار اجتماعي كبير، قد تطال آثاره البلاد المحيطة به كلبنان، من خلال موجات نزوح جديدة، لكن بدوافع معيشيّة واقتصاديّة هذه المرّة.
أمّا ما ينبغي إبقاؤه تحت المجهر في المرحلة المقبلة، فهو التداعيات السياسيّة للأزمتين النقديّة والمعيشيّة، وهي تداعيات بدأ الجميع بتلمّس آثارها منذ اليوم مع انتشار تظاهرات جالت في شوارع عدّة من مدينة السويداء الواقعة تحت سيطرة النظام. ومع أنّ التظاهرات انطلقت كموقف من تردّي الظروف المعيشيّة في البلاد، لكن سرعان ما ربط المتظاهرون هذه الظروف بالواقع السياسي الذي يعيشونه، وهو ما ترجموه بشعارات طالبت بتغيير نظام الحكم وبخروج القوات الروسيّة والإيرانيّة من سوريا.
فهل يكون الانهيار الاقتصادي في سوريا مقدّمة لسقوط النظام السياسي هناك؟