بعد ثلاثة أسابيع من مهمة التمحيص في أرقام خطة الحكومة في الشقّ المتعلق بتقدير الخسائر، أنجز النواب من مختلف الكتل النيابية في لجنة تقصّي الحقائق مقاربة جديدة، أطاحت بخطة الحكومة التي قامت على تضخيم الخسائر، أو جلد الذات بحسب توصيف عدد من النواب، مقدّرة الخسائر بـ 241 ألف مليار ليرة، في حين أنّ المصرف المركزي والمصارف قدّرتها بـ 104 الآف مليار ليرة. النائب ابراهيم كنعان لم يشأ الإفصاح عن الرقم الذي توصلت إليه لجنته في تقدير الخسائر، تاركًا إياه للجنة المال، ولكن مصادر نيابية مشاركة في اللجنة كشفت لـ “لبنان 24” أنّ الرقم انخفض من 241 ألف مليار إلى حوالي 82 ألف مليار، أي إلى أكثر من النصف.
عن كيفية الوصول إلى هذا الفارق الشاسع، لفتت المصادر النيابية إلى أنّ الحكومة اعتمدت طرقًا حسابية خاطئة. فعلى سبيل المثال احتسبت الموجودات لدى المصارف ولدى المصرف المركزي وفق سعر صرف الدولار 1500 ليرة، في حين أنّها احتسبت الطلبات على أساس 3500 ليرة للدولار الواحد، ولم تعتمد سعر صرف واحد، متسائلة عن الهدف من وضع لبنان في خانة الإفلاس خلافًا للوقائع والأرقام والموجودات، وكأنّ هناك وراء الأكمّة ما وراءها.
اللافت أنّ كل النواب، بمن فيهم المنتمون إلى كتل ممثّلة في الحكومة، أكّدوا على وجود ثغرات كبيرة في خّطة الحكومة في احتساب الأرقام، وأجمعوا على المقاربات الحكومية الخاطئة، وعلى رفض تحميل المودع مسؤولية الهدر والإنفاق من دون اعتمادات، فهناك مسؤولية على الدولة، ولا يجب تحميلها للمودع.
النواب اعتمدوا نهجًا مختلفًا في عملهم عن ذاك المعتمد في خطّة الحكومة، بحيث استندوا إلى معايير علمية، وناقشوا في كلّ المعطيات وبحضور كلّ الجهات المعنية، على عكس ما فعلت الحكومة، بحيث انفردت بتحديد الخسائر من دون العودة إلى المجلس النيابي والمصرف المركزي والمصارف، وذهبت للتفاوض مع صندوق النقد الدولي لتكشف أمامه الخلل الكبير والتفاوت بالأرقام. رئيس اللجنة النائب ابراهيم كنعان حرص على التأكيد أنّ اللجنة لم تتبنّ أي من الطروحات الواردة في خطة الحكومة أو المصارف، بل استندت إلى مقاربات علمية، خلصت بنتيجتها إلى أنّ لبنان ليس بلدًا مفلسًا بل متعثر، ويعاني من نقص في السيولة، وأنّ إمكانية النهوض غير معدومة، في حال قامت الحكومة بواجباتها في الإصلاحات المطلوبة.
جملة أسس استندت إليها اللجنة، توزيع الخسائر على الدولة ومصرف لبنان والمصارف وعدم تحميل المودع نتائج الخسارة، في حين أنّ خطة الحكومة استندت إلى شطب ديونها للمصارف وبالتالي شطب ودائع اللبنانيين. استبعاد فرض “هيركات” على سندات الخزينة بالليرة اللبنانية، كون حاملي هذه السندات مُنيوا بخسارة وحصل الإقتطاع من أموالهم بفعل تفلت سعر صرف الدولار، ولا يجوز تحميلهم المزيد من الخسائر، خلافًا لما تطرحه خطّة الحكومة، بعدما تبيّن أن هناك 40% “هيركات” على هذه السندات، الأمر الذي رفضته لجنة تقصّي الحقائق.
وفي استعراض لبعض الأرقام، خفّضت اللجنة الخسائر الناتجة عن الهندسات المالية الواردة في خطة الحكومة من 66 ألف مليار إلى 57 ألف مليار، بعدما تبيّن أنّ لدى المصرف المركزي 9 الآف مليار لم تُحتسب. احتُسب الذهب بقيمة 47 ألف مليار ليرة. خطّة الحكومة قيّمت تعثر المصارف في تسليفاتها للقطاع الخاص بقيمة 44 ألف مليار، في حين أنّه تبيّن للجنة أنّ الحكومة وضعت الرقم من دون العودة إلى لجنة الرقابة على المصارف، وتمّ تخفيض الرقم من 44 ألف مليار إلى 14 ألف مليار “فلا يمكن أن تعتبر هذه التسليفات خسائر وهي مضمونة برهن لكلّ منها”. ثغرة فاقعة إضافية وردت في خطة الحكومة، بحيث احتسبت الديون المستحقة بعد عشر سنوات أي عام 2040 على أنّها خسائر، وقيّمتها بخسارة بلغت 62 ألف مليار، في حين أنّ المصرف المركزي لا يعتبر أنّ الدين المستحق بعد عشر سنوات هو خسارة، إذ لا يزال هناك متسع من الوقت، وهذا المبلغ خُفّض بفارق 26 ألف مليار عن الرقم الوارد في خطة الحكومة. كما تبين أنّ احتساب الحكومة لحجم الناتج المحلي ليس دقيقًا، استنادًا إلى اتصالات أجرتها اللجنة مع إدارة الإحصاء المركزي ومراجع دولية، الأمر الذي من شأنه أيضًا أن ينعكس على تحديد الخسائر.
على رغم فداحة الفارق بالأرقام في تحديد الخسائر، والتي تكشف عشوائية العمل الحكومي، هناك ما هو أبعد وأكثر أهمية من الأرقام. هناك الإصلاحات المنتظرة من الحكومة، والتي تجاهلتها في ممارساتها وقراراتها، لا بل ذهبت إلى السير عكس ما هو مطلوب منها في ملف الكهرباء، أكثر الملفات هدرًا وفسادًا في لبنان، فبدل أن تذهب باتجاه تخفيض الهدر في الكهرباء، كرّست المزيد من الإنفاق والهدر، بتثبيتها معمل سلعاتا واستملاكاته المليونية. ناهيك عن التهريب الناشط عبر المعابر، وغيره من مزاريب الهدر، في وقت يمكن للحكومة أن تكسب ثقة المجتمع الدولي واللبنانيين، في حال خطت خطوة واحدة باتجاه تغيير النهج القديم، لا تكريسه كما هو حالها اليوم.