نشهد في العالم اندماج لست شركات زراعية عملاقة متعددة الجنسيات يؤدي إلى أكبر احتكار للقطاع الزراعي العالمي في التاريخ.
بعضنا يعلم أن المسار الذي تتبعه هذه الشركات العملاقة (التي أحيانا” تفوق ميزانيتها ميزانية دول) أدّى إلى تدمير تربتنا وتدهور التنوّع البيولوجي وتلوّث مياهنا واختفاء مزارعنا الصغيرة لصالح الزراعة المكثفة. على سبيل المثال حاولت إحدى الشركات الزراعية المتعددة الجنسيات في مؤتمر زراعي عالمي المواربة لإلغاء الحظر المفروض على “النيوكوتينود” لعواقبه الكارثية على الملقحات الطبيعية مثل النحل والنحل الطنان مما أدى إلى إبادة هذا النوع من الحشرات المفيدة للطبيعة، وبالتالي فقدان عملية التلقيح النباتي وجودة نوعية المحاصيل.
وقد أكدت “حركة السيادة الغذائية العالمية” ( Food Sovereignty ) والتي تعارض الشركات العملاقة أنّ الزراعة الذكية (smart agriculture)، أي زراعة المستقبل، يجب أن تكون على غرار النظم البيئية الطبيعية. ونادت بإتباع الإيكولوجيا الزراعية (agro ecology) مستندة إلى تقرير للمقرر الخاص للأمم المتحدة المعني بالحق بالغذاء الذي نصّ على أن الإكولوجيا الزراعية يمكن أن تضاعف إنتاج الغذاء في غضون 10 سنوات، والتخفيف من التغيير المناخي وحماية الموارد المائية وخلق فرص عمل جديدة في الأرياف. تطالب هذه الحركة بإمدادات تسمح للمزارعين بزراعة أغذية عضوية وطبيعية أكثر ربحية وأقل تعقيدا”.
فهل هذا النداء دفع هذه الشركات التي تستثمر في البذور المعدلة وراثيا” (والتي تؤدي إلى ارتفاع في استخدام المبيدات الكيمائية الخطرة) على الاندماج كطريق للخروج من هذه المقاومة على تسلّط هذه الشركات والتي تفرض على الدول تقنياتها العالية وبذورها المعدلة وراثيا”والحاصلة على براءة اختراع وموادها الكيمائية السامة والزراعة الأحادية.
تكتسب هذه الحركة للسيادة الغذائية اعترافا” واسع النطاق ويتم ترويجها بشكل متزايد كنهج لتحويل الزراعة والنظم الغذائية وكسبيل لمواجهة التحديات التي نواجهها في القطاع الزراعي. كشفت هذه الحركة أن الخطاب التضليلي حول الابتكار يشير إلى ما يجب أن يكون عليه النظام الغذائي الجديد دون وضع أي معايير حول ما يجب أن يقدّمه هذا الابتكار. ومن هنا تم دمج مفهوم الإيكولوجيا الزراعية مع مصطلحات مثل النباتات المعدلة وراثيا” وتقنيات تربية الجينات الجديدة، والزراعة الذكية المرتبطة بالمناخ والزراعات المكثفة المستدامة.
تبحث هذه الحركة في عناصر الإيكولوجيا الزراعية كما حددها صغار منتجي الأغذية والتي تعتبرها الابتكار الوحيد الصالح لتحويل نظامنا الزراعي والغذائي. بدلا” من تسليم الإنتاج الزراعي إلى السوق الحرة وإملاء الشركات الزراعية العملاقة، فإن المجتمعات المحلية هي التي يجب أن تحدد النظم الزراعية والغذائية. بهذه الطريقة فقط ستتمكن من الحصول على نظام غذائي صحي، مصمم خصيصا” لتلبية احتياجاتهم، ويتم إنتاجه محليا”وبطريقة مستدامة. فلذا يصبح من الضروري الالتزام بمفهوم السيادة الغذائية.
تجدر الإشارة هنا أن مركز البحوث الزراعية العالمية في المناطق الجافة – إيكاردا- يعمل على بنك الجينات الزراعية في منطقتنا. وهذا يمثّل ركيزة أساسية للحفاظ على الأصول الوراثية والتنوع الحيوي لبعض المحاصيل الأولية الموجودة في المنطقة، ولمنع الجرف الجيني لهذه الأصول. يخزن هذا البنك 150 ألف عينة، 65بالمئة منها أنواع محلية وبرية تمّ جمعها من مناطق عرفت أقدم ممارسات تدجين المحاصيل في الحضارات البشرية، مثل الهلال الخصيب. وقد اكتسبت المحاصيل في هذه المناطق منذ آلاف السنين مورثات متأقلمة طبيعيا” مع التغيير البيئي. كانت مؤسسة إيكاردا قد أعادت نقل عملها إلى لبنان بعد الحرب في سوريا، وتم إرسال نسخا” من كافة بيانات التسجيل الخاصة ببنك الجينات الزراعية إلى البنك العالمي للبذور “سفالبارد” في النرويج. يسهم بنك الجينات في لبنان في المحافظة على الأصناف التي قد تنقرض، وتطوير أصناف محاصيل جديدة ذات خصائص إنتاجية عالية، لها القدرة على مقاومة الأمراض والحشرات والظروف المناخية الصعبة من جفاف أو رطوبة، مما يساهم في تعزيز الأمن الغذائي بالمنطقة. وهنا بالإضافة إلى جهود هذه المؤسسة للحفاظ على التراث الإنساني الزراعي، يمكننا القول أن تم اختيار لبنان للمركز، لأنه يتمتع بجميع عناصر الزراعة من مياه وتربة وشمس، وهكذا يمكننا القول أن لبنان يساهم بالحفاظ على البذور الأصيلة وبإنتاج بذور تصدر إلى جميع أنحاء العالم.
في الإصلاحات الزراعية نعود إلى مفهوم الحوكمة التي يوجب تنفيذ المشاركة الفعالة في صنع القرار لجميع المعنيين (خصوصا” الفلاح المحلي وصغار المزارعين) والاعتراف بها والمحافظة على المعرفة التقليدية لدى هذه الشريحة من الناس. إنّ أصوات هذه الشريحة من المجتمع مهملة، إلا أنهم هم الذين لديهم المعرفة والخبرة والقدرة على تأمين الغذاء في بيئة مستدامة وصحية. هذه الفئة في مجتمعنا تنسجم مع التنوع البيولوجي الحقيقي والطبيعة التي تغذينا وهذه هي أهم عناصر السيادة الغذائية. أما الشركات الزراعية العملاقة، ومثيلاتها في القطاع الخاص المحلي، يقدمون أنفسهم كأبطال في مكافحة الجوع وكقادة في الحفاظ على البيئة. والحلول التي يروجونها هي زيادة إنتاجية الأراضي الزراعية من خلال التكنولوجيا وزيادة تقليل الحواجز أمام التجارة الحرة.
مع العلم أن صغار المزارعين هم المبتكرون الأساسين في الزراعة منذ آلاف السنين، وهم المحافظون على البذور الأصيلة المحلية. من هنا وجب دعم عمليات الابتكار التي يقودها صغار المزارعين والفلاحين المحليين، بالإضافة إلى نقل المعرفة من مزارع إلى مزارع لنقل الابتكارات المحلية والمشاركة في النتائج.
سمعنا كثيرا” العقيدة التي تحول الأراضي والمياه والبذور سلعة تجارية لزيادة الاستثمارات تحت شعار ضمان الأمن الغذائي، مكافحة الفقر أو محاربة الجوع. إن تكريس الأسطورة القائلة أن العالم لا ينتج ما يكفي اليوم لإطعام الجنس البشري هو لترويج أدوات الشركات الزراعية العملاقة، إلا أنّ وفقا” لمنظمة الأغذية والزراعة، فإننا ننتج بالفعل ما يكفي من الغذاء ل12 مليار شخص وليس 9 مليارات ( العدد الحالي للبشرية) و إن أسباب الجوع وسوء التغذية تكمن في الفقر المدقع خصوصا” في الأرياف، وهدر الطعام وتحويل الأراضي الزراعية للبناء أو لإنتاج الوقود الحيوي وتربية الماشية.
كشف وباء الكورونا عن أزمة في النظام العالمي، في سعيه وراء الربح وافتقاره لمبادئ المساواة والعدل مما أدى إلى تدهور الظروف المعيشية للإنسان وتدهور البيئة. إنّ سياسة قطع الغابات بطريقة عشوائية أدّى إلى فقدان التنوع البيولوجي الذي يحمي البشر، وكانت نتائجه انتشار أوبئة وأمراض جديدة، لم تعرفها الإنسانية من قبل. كما أن ظهور وتفشي الأمراض والأوبئة مرتبط أيضا” بصناعة اللحوم العالمية، ذلك لأننا نأكل الكثير من اللحوم، والغالبية العظمى تأتي من المنشآت الصناعية الضخمة التي تزوّد 90 بالمئة من اللحوم على المستوى العالمي، حيث تكتظ الحيوانات بالآلاف في حظائر ضيقة وفي ظروف قاسية وغير صحية.
كما كشف الفيروس عن ضعف النظام الغذائي المعولم الحالي الذي تهيمن عليه الشركات الزراعية العملاقة، مما أدى إلى كورونا الجوع الذي يؤدي إلى خمسة وعشرون ألف حالة وفاة يوميا” في العالم، معظمهم من الأطفال، مستقبل الحياة البشرية. ولقاح كورونا الجوع موجود في توزيع الغذاء للشعوب الفقيرة، وتغيير الفكر الرأسمالي لعدم الاكتراث بموت الناس.
إنّ مفهوم الزراعة من الناحية الأخلاقية يقودنا إلى تهذيب الإنسان وجعله بعيدا” عن التعقيدات الاجتماعية وأقرب إلى البساطة الإنسانية، لأن العلاقة تكون مباشرة بين الإنسان والأرض. عناصر الأخلاقيات تكمن في روية في التفكير، الصدق والمحبة الصافية التي تكوّن العائلة، نواة المجتمع. هذا يؤدي إلى نشر فيروس جديد صالح ونموذج لرفع شأن المجتمع إلى أعلى مستوى من النضوج. مما لا شك فيه، أن المزارع يحافظ على صحة جيدة كونه يتعامل بعناصر الطبيعة ألا وهي الشمس، الأرض والمياه والهواء النظيف التي توفره الأشجار والنبتات، وهي أسس جودة الصحة.
إنّ المزارع اللبناني استمر في تأمين الغذاء للناس حتى في أوقات الوباء. يجب أن نستفيد من هذه الأزمة بالإضافة إلى الأزمة الاقتصادية، والاستثمار في بناء أنظمة غذائية محلية ومتنوعة. من هنا يصبح من الضروري ضمان حقوق الفلاحين المحليين، استنادا” إلى إعلان الأمم المتحدة عام 2018. من خلال ضمان زراعة الأراضي وتأمين الحصول على البذور المحلية ودعم أسواق المزارعين المحلية. كما يجب تحسين البنية التحتية في الأرياف، وزيادة المساحات المزروعة وتصنيف الأراضي الزراعية والحد من التمدد العمراني وإعداد إستراتيجية زراعية تحترم البيئة والطبيعة، وتأمين الري من موارد مائية نظيفة غير ملوثة.
من مسؤولية وزارة الزراعة ضمان حصول المواطنين على أغذية صحية تتناسب مع تراثنا وتقاليدنا. علينا دعم المزارع اللبناني في نضاله أمام المضاربة التي تمارسها الشركات الخاصة التي تحتكر الزراعة في الوطن. علينا تكثيف الاستثمارات في الزراعة الوطنية ودعم برامج الإنتاج الإيكولوجي، وتأمين وصول إنتاج المزارع إلى الأسواق المحلية ودعم الأسعار لتأمين حياة كريمة له. ومراقبة الشركات الخاصة المحلية والعالمية في بيع منتجاتها الكيمائية وتنظيم حملات توعية للمزارع اللبناني.
ولا تكون مناعة الإنسان لمكافحة الوباء إلا بتغيير ثقافتنا الغذائية و بتبني غذاء” صحيا”، باختيار المزروعات الإيكولوجية بعيدا” عن الوجبات السريعة والسلع الغذائية المعلبة والمضرة”.