لذلك، وعندما زار جان بيار لاسال، المتخصص في قضايا المالية العامة، لبنان في مهمة اكاديمية خلال عهد رئيس الجمهورية الأسبق الياس الهراوي، والتقى حاكم مصرف لبنان رياض سلامة، سأله عن تقديراته حيال نسبة زيادة الكتلة النقدية لغاية أواخر العام فصُعق عندما أجابه سلامة بان لا فكرة لديه. بالنسبة الى الاقتصادي لاسال، يُعتبر البنك المركزي حارس المجتمع ضد التضخم، لكن في لبنان تنحصر هذه المهمة بطباعة العملة عشوائياً ضاربة الحائط بقيمة الذهب الذي من المفترض ان يغطي حجم الكتلة النقدية، وهو ما يعني باختصار استحالة التعويل على الذهب كمخرج انقاذيّ.
عندما أقرت حكومة حسان دياب خطتها الاقتصادية الانقاذية، رفض حاكم “المركزي” الاعتراف بالخسائر معتبراً ان البنوك المركزية قادرة على تدوير خسائرها. وهكذا، عمليات طباعة الليرة في “المركزي” منذ التشرينَين مستمرة بلا انقطاع، بحيث تشير إحصاءات مصرف لبنان إلى أنّ الكتلة النقدية المتداولة في السوق المحلية تخطّت حتى تموز الماضي الـ 20 تريليون ليرة لبنانية، مقارنة بنحو 18 تريليوناً أواخر أيار، و7 تريليونات في تشرين الأول من العام 2019. هذا بحسب الارقام المعلنة، لكن في الواقع، يقدر الخبراء حجم الكتلة النقدية بأكثر من 30 تريليون ليرة. من شأن ما يسري بين اروقة “المركزي” من عمليات خلق للنقد وبتكتّم تام ان يعظّم المسار الانحداري لليرة.
باختصار، هذه الأرقام تعني ان الذهب الذي يملكه مصرف لبنان لا يغطي الا جزءاً ضئيلاً من حجم الليرة المتداولة، وهي تعني أيضاً ان توقعات المركزي وتخبيصاته تخطت قيمة الذهب ومعها روحية كل القوانين وعلى رأسها قانون النقد والتسليف.
عن الموضوع يوضح الاستراتيجي في أسواق البورصة العالمية وشؤون الاستثمار جهاد الحكيّم ان “مهما بلغت قيمة الذهب صعوداً، فذلك لا يمكن ان ينعكس ايجاباً على مالية مصرف لبنان، وذلك لسبب بسيط هو ان “المركزي” تخطى وبأشواط الهامش المسموح به لطباعة العملة بالارتكاز على قيمة احتياطي الذهب لديه والبالغة بأوسع تقدير 18 مليار دولار أميركي”.
ويضيف الحكيّم: “لا يمكن لارتفاع سعر الذهب ان يعوض الخسائر الناجمة عن خسارة تحويلات المغتربين والاستثمارات الخارجية المباشرة ولا التدفقات بالعملات الصعبة ومعها ودائع غير المقيمين. ورغم انه من الصعب تقييم حجم العملة المطبوعة الا انها قابلة للتوقع نظراً لاعتماد مصرف لبنان سياسة تسديد الودائع المدولرة بالليرة على أساس 3900 ليرة. طباعة العملة والحفاظ على قيمتها يتطلبان احتياطيات بالذهب والدولار ونمواً اقتصادياً ولبنان يفتقر الى العوامل الثلاثة فيما احتياطياته تُستنزف وتُهدر على المازوت المهرّب. بطريقة مبسّطة، لا يمكن الاستفادة من ارتفاع سعر الذهب عالمياً وذلك لعدة أسباب اوّلها الطبع العشوائي لليرة من دون الارتكاز على الاحتياطي بالعملة الأجنبية او بالذهب. فخلال الأعوام السابقة، كان مصرف لبنان يسارع الى طباعة العملة كلما ارتفع سعر الذهب معتبراً قيمة موجوداته قد ارتفعت، وهو ما أفقد الذهب قيمته، بحيث بات مجرد التفكير بالتصرف فيه ان يرتّب نتائج عكسية”.
لم يكن رئيس مجلس النواب السابق حسين الحسيني ليتصور عندما أقر القانون رقم 42/86 لحماية ذهب لبنان وإبعاده عن الهيمنة السياسية للحفاظ على مستقبل العملة الوطنية، ان يأتي يوم يصبح فيه هذا الذهب عرضة للحجز الدولي. فقد اكتسب ذهب “المركزي” عقيدة تقليدية هي التي تمنع المسّ او التفريط فيه لاعتباره عامل ثقة، الا انه اصبح اليوم في مهبّ المخاطر بعدما أُسقطت كل الحصانات القضائية الخارجية بفعل امتناع لبنان عن تسديد مستحقات اليوروبوندز، حيث بات من الممكن محاولة الدائنين حجز الأصول المملوكة مباشرة من مصرف لبنان كالذهب، وتلك المملوكة منه بشكل غير مباشر…