غاز شرق المتوسط.. صدام أم تسوية؟

20 أغسطس 2020
غاز شرق المتوسط.. صدام أم تسوية؟

تحت عنوان “غاز شرق المتوسط.. صدام أم تسوية؟”، كتبت فيوليت غزال البلعة في موقع “العربية”، وجاء في المقال التالي: 
“لم يكن دخول واشنطن على خط التوتر الطاقوي الممتدّ على طول شواطئ شرق المتوسط، عبثيا او موقفا عابرا أدلى به وكيل وزارة الخارجية الأميركية للشؤون السياسية ديفيد هيل خلال زيارة خاطفة الى الجزيرة القبرصية الأحد الماضي، وهو في طريق عودته من لبنان حيث تفقد أضرار إنفجار بيروت وحاول ترميم المشهد الحكومي.

موقف واشنطن الداعم لحق قبرص في استغلال رواسب الهيدروكربون المكتشفة في مياهها الإقليمية، يوازي باهميته موقف الإتحاد الأوروبي من دون أن يتلازما حكما في الأهداف النهائية، وفي سياسات المناورة التي تعتمدها واشنطن مع أنقره سياسيا ومن خلالها اقتصاديا، فيما تبدو القارة العجوز غير مقتنعة حتى اليوم بان ترهن كل إمداداتها الطاقوية الى قبرص بدلا من روسيا وأذربيجان وإيران، علما ان الجزيرة هي عضو غير كامل العضوية في الإتحاد الأوروبي… او ربما هو صراع النفوذ للسيطرة على منطقة لا تزال تختبر مكامنها النفطية والغازية من دون ان تحدد حجم ثرواتها المستقبلية، التي يتردد أنها ستكون الخزان الجديد للعالم في المرحلة المستقبلية.

ذهبت واشنطن الى ابعد مما بلغه الاتحاد الأوروبي. وللموقف الأميركي المستجد والداعم لقبرص، ما يبرّره سياسيا من مواقف متصلبة حيال أنشطة تركيا الداعمة للإرهاب الإقليمي بقيادة نظام رجب طيب اردوغان، ونواياه التوسعية في الملف النفطي الذي يكاد يغزو سيادة المناطق الاقتصادية الخالصة لكل من قبرص ومصر واليونان، وذلك في ما يبدو انه محاولة لإستعادة الحلم العثماني التوسعي الذي صادر كل الثروات الطبيعية وتعمّد محو الهوية الوطنية والثقافية للدول المستعمرة على مدى نحو 4 قرون! وتاليا، يتصرف اردوغان وكأن حقوق دول شرق المتوسط اليوم، هي حقوق سابقة له ويسعى الى استردادها.

لكن، لمَ قبرص أولا، علما ان ميزان القوى لا يستوي إلا بين تركيا ومصر، الخزان الأكبر للغاز في شرق المتوسط، او حتى بين تركيا واليونان، الدولة الأوروبية العضو بكامل قواها العسكرية والأمنية والاقتصادية؟
تدرك تركيا ان سياسة القضم التدريجية تكفل لها التقدم خطوة خطوة في اتجاه وضع يدها على المناطق الاقتصادية الخالصة، غير المرسمّة رسميا ونهائيا وفق “قانون البحار” عام 1982 الخاص بالحدود البحرية بين دول تتقاسم ثروات طبيعية في مياهها المشتركة. وكان من الأسهل على أنقرة ان تبدأ من دائرة قبرص، الجزيرة التي صادرت ثلثها الشمالي عام 1974 وأعلنته دولة مستقلة في العام 1983، لتمتدّ إعتداءاتها حتى اليونان، حيث تداخلت الحدود بفعل جيولوجي طبيعي، فارتأت استكشاف مياه كاستيليريزو، وهي أصغر الجزر اليونانية التي تبعد أقل من كيلومترين عن السواحل التركية، وتعدّ من الجزر المتنازع عليها بين البلدين، إضافة الى كريت، وهي اكبر الجزر اليونانية التي نشأت قبل نحو 4 آلاف عام على يد الملك الأسطوري مينوس، وغزاها الأندلس قبل ان يستردها البيزنطيون، لتسقط في يد العثمانيين لقرون ومن بعدهم البنادقة، الى حين ضمتها اليونان مطلع القرن التاسع عشر.

لم تنفع بعد مواقف الدعم في إزاحة الكابوس التركي عن صدر الساحل الجنوبي الغربي لقبرص، حيث تطالب أنقرة بنحو 44% من مساحة المنطقة الاقتصادية الخالصة، تكريسا لحقّها في مواجهة الأنشطة القبرصية التي بدأت عام 2011 مع شركة “نوبل انرجي”، علما ان الصراع بدأ في العام 2000، بعدما وقّعت نيقوسيا اتفاقات الجرف القاري مع مصر عام 2003، ومع لبنان عام 2007، ومع إسرائيل عام 2010. وبعدها بادرت نيقوسيا الى استنهاض همّة شركائها النفطيين، ليفضي التعاون الى تأسيس منتدى غاز شرق المتوسط عام 2019 وإعلانه من جزيرة كريت اليونانية، بهدف إنشاء سوق غاز إقليمي في منطقة شرق المتوسط وتحسين العلاقات التجارية وتأمين العرض والطلب بين الدول الأعضاء.

هذا ما يجعل من قبرص، المحور المشترك في الأنشطة القائمة شرق المتوسط ونجاحها في استقطاب كبرى الشركات النفطية (“بريتيش بتروليوم”، “إيني”، “توتال”، “اكسون موبيل”، “قطر للبترول”…)، بما حوّلها هدفا اول لتركيا، التي أرسلت سفنها لاستكشاف المياه الإقليمية استنادا الى حسابات خاصة بها تميل الى تجاوز قانون البحار الذي يجيز لأي دولة ان تحدد عرض بحرها الإقليمي بمسافة 12 ميلا، ومنطقتها الاقتصادية الخالصة بمسافة 200 ميل. اذ تطالب أنقرة بـ44% من المنطقة الاقتصادية للجزيرة، وتشدد على أن لها كل الحق في القيام بمثل هذه الاستكشافات للدفاع عن مصالحها ومصالح القبارصة الأتراك.

لمَ قبرص وليس اليونان؟
تعتبر أنقرة ان قبرص هي الخاصرة الرخوة لساحل شرق المتوسط، وهي تريد تثبيت أقدامها في مشاريع التعاون الطاقوي القائمة من دون ان تنزلق الى مواجهة عسكرية، تدرك جيدا انها لن تفضي بها الى تحقيق أي انتصار. وهذا ما دفع الرئيس الترك إردوغان الى التأكيد أخيرا لمجلة “كريتر” التركية، انفتاحه على كل الاقتراحات المستندة للتعاون والتقاسم العادل في البحر التوسط، واستعداد بلاده للعمل مع الجميع على أساس هذه المبادئ، قائلا “لا نريد توتراً في المتوسط الذي يعدّ مهد الحضارات المختلفة”.

قد تكون قبرص هي الواجهة لاي مواجهة تراهن انقرة انها ستقودها الى طاولة المفاوضات، لأسباب ابرزها الآتي:
1- لان قبرص هي الإمتداد الجغرافي والديموغرافي الطبيعي الأقرب للإستعمار التركي الذي يرابط في الثلث الشمالي من الجزيرة المتوسطية منذ نحو خمسة عقود.
2- لان قبرص حققت وقبل تفشي جائحة “كورونا”، اكتشافات غازية مهمة في مياهها الإقليمية تقدّر إحتياطها بنحو 30 تريليون متر مكعب، على يد شركات عالمية بينها “اكسون موبيل” و”نوبل انرجي” و”توتال” و”قطر للبترول”.
3- لان قبرص هي دولة غير مكتملة العضوية في الإتحاد الأوروبي الذي تراهن أنقرة على عدم تورّطه بالكامل دفاعا عنها. وهذا ما يبرّر عتب نيقوسيا على “إسترضاء” الإتحاد الأوروبي لتركيا رغم العقوبات المالية التي فرضها عليها، بما شجع أنقرة على التمدّد في المياه الإقليمية القبرصية لاستكشافات باتت تشكل استفزازات خطيرة.
4- لان قبرص التركية تثقل على كاهل الاقتصاد التركي المتهالك بفعل جائحة “كورونا” التي حرمته من إيرادات السياحة ودفعت الليرة التركية الى ادنى مستوياتها تاريخيا. علما ان تركيا تتولى رعاية جمهورية قبرص التركية منذ نشأتها كدولة لم تحظ باي اعتراف عالمي، وتاليا تتولى دعم ميزانيتها المالية والاقتصادية وحتى الكهربائية والمائية، بما يجعلها دولة تابعة وليس مستقلة.

لذلك، تجهد أنقرة لاستدراج الشركاء الغازيين في شرق المتوسط الى طاولة الحوار عبر ضغط ارسال سفن الحفر بمرافقة بواخر حربية مدججة في جولات إستعراضية قبالة قبرص وبعض الجزر اليونانية، في مهمات استطلاعية لاجراء مسوحات سيزمية لم تفض الى أي نتائج تعلنها انقرة لتبشّر بوجود اكتشافات غازية او نفطية…

مشهد تداخل الحدود البحرية ينتظر وساطات جديدة على مستوى الأمم المتحدة بعد فشل محاولات أولى عام 2017، وذلك توصلا الى ترسيم نهائي يراعي الحقوق والآثار على الدول المتجاورة، والا فان تركيا ماضية في عمليات التنقيب غير الشرعي تحت عذر حقوق قبرص التركية في التنقيب حول كامل الجزيرة. فهل تنزلق منطقة شرق المتوسط الى مواجهة عسكرية، ام تتسارع الجهود تفاديا لصدام قد يكون له تكاليف ضخمة على دول استنزفت “كورونا” نموّ اقتصاداتها واوقعتها في عجوزات مالية وأعباء اجتماعية غير محتسبة؟