77 عاما في أرقام: رحلة انهيار اقتصاد لبنان.. من سويسرا الشرق إلى فنزويلا الشرق!

30 أغسطس 2020
77 عاما في أرقام: رحلة انهيار اقتصاد لبنان.. من سويسرا الشرق إلى فنزويلا الشرق!

كتبت “عربي 21”: على عكس ما يعيشه اللبنانيون في الوقت الحالي من انهيار اقتصادي وتدهور معيشي خاصة بعد انفجار مرفأ بيروت في 4 آب الجاري، الذي راح ضحيته 171 قتيلا وأكثر من 6 آلاف جريح، ومئات المفقودين، وخسائر مادية كبيرة قدرها محافظ بيروت بنحو 15 مليار دولار، عاش لبنان عصرا ذهبيا، ولقب بـ”سويسرا الشرق”، وسميت بيروت بـ”باريس الشرق”.. فما الذي حدث؟.. وكيف انهار الاقتصاد اللبناني؟.. وهل يمكن أن تعود “سويسرا الشرق” إلى سابق عهدها؟

 

عربي21″ ترصد في الملف التالي رحلة سقوط الاقتصاد اللبناني منذ حصول لبنان على استقلاله في 22 تشرين الثاني 1943 وحتى الثلاثاء الأسود في 4 آب 2020، من واقع البيانات الرسمية والتقارير الدولية، وأبرز المراحل الفاصلة في تغيير المسار الاقتصادي على مدار 77 عاما مضت.

 

احتل لبنان مكانة جغرافية مميزة جعلته أشبه بوسيط تجاري بين الشرق والغرب، ومكنته من الاستفادة الاقتصادية والتجارية من حركة التجارة العالمية، كما استفاد أيضا من التغيرات والتوترات السياسية العربية والإقليمية والعالمية، وأصبح في فترة الستينيات وبداية السبعينيات مركزا ماليا للشرق الأوسط، خاصة بعد إقرار قوانين السرية المصرفية الشبيهة بتلك المطبقة في سويسرا.

 

وعلى إثر هذه القوانين، نجح لبنان في استقطاب رؤوس الأموال العربية المهاجرة والمهربة من دول عدة شهدت انقلابات عسكرية وتحولات اقتصادية جذرية خاصة بعد وصول حزب البعث لسدة الحكم بسوريا والعراق وخلال الحقبة الناصرية بمصر، وتبني الاقتصاد الاشتراكي ومحاربة الرأسمالية، وما نتج عنه من هروب رجال المال والأعمال بأموالهم.

 

وبخلاف غالبية الدول العربية في تلك الفترة، اعتمد لبنان نموذج الاقتصاد الحر “الرأسمالي”، وقام بسن قوانين جديدة آنذاك لتعزيز دور القطاع المالي والمصرفي، أبرزها قانون النقد والتسليف لحماية سرية الودائع وتشجيع رجال الأعمال العرب على الاحتفاظ بأموالهم في المصارف اللبنانية، وهو ما عزز من قيمة الليرة اللبنانية أمام الدولار وتسبب في زيادة معدلات النمو وضعف التضخم إلى جانب ازدهار السياحة وبقية القطاعات الاقتصادية الأخرى الصناعية والزراعية والتجارية.

 

مؤشرات ذهبية

وخلال عقد الستينيات حقق الاقتصاد اللبناني مؤشرات قوية، (كانت بمثابة العصر الذهبي للبنان) حيث فاق المعدل السنوي للنمو الـ 5 بالمئة، (وفي عام 1963، سجل لبنان المركز الرابع عالميا في النمو الاقتصادي بعد الولايات المتحدة، وفرنسا، وسويسرا) وظل معدل التضخم دون مستوى 1.5 بالمئة، ونما قطاع الزراعة 6.3 بالمئة، وساهم بنسبة 12 بالمئة من الناتج المحلي، كما نما قطاعا الصناعة والخدمات 5 بالمئة، وبلغت نسبة مشاركة هذين القطاعين في الناتج المحلي 68 بالمئة، وارتفعت الصادرات سنويا بمعدل 14.5 بالمئة مقابل 5.1 بالمئة فقط نموا في الواردات، وتراوح سعر صرف الليرة مقابل الدولار بين 3 و3.5 ليرات للدولار الواحد.

 

والمطلع على هذه المؤشرات الاقتصادية القوية خلال فترة “العصر الذهبي” للاقتصاد اللبناني يجد نفسه أمام حسرة علامات استفهام كبيرة أمام ما يعانيه الاقتصاد اللبناني في الوقت الحالي من مؤشرات صادمة، بعد تسجيل دين عام وصل إلى 93 مليار دولار في نهاية أيار 2020، (ما يعادل أكثر من 170 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي، بحسب وكالة التصنيف الائتماني “ستاندرد آند بورز”، وتعد هذه النسبة أحد أعلى معدلات الديون في العالم).

 

وانهار سعر صرف الليرة أمام الدولار في السوق السوداء إلى أكثر من 8 آلاف ليرة للدولار الواحد، مقابل سعر صرف رسمي عند 1507 ليرات أمام الدولار، وبلغ معدل التضخم السنوي 462 بالمئة، وتجاوز التضخم الشهري الـ50 بالمئة، وهو ما جعل لبنان أول دولة بالشرق الأوسط وشمال أفريقيا تدخل مرحلة التضخم المفرط أو الجامح، بحسب جدول تضخم هانكي-كروس العالمي.

 

وانخفضت الصادرات 7.3 بالمئة في الأشهر الخمسة الأولى من العام 2020، وفقا لأحدث إحصاءات التجارة الخارجية الصادرة عن “مصلحة الجمارك اللبنانية”، هذا إلى جانب معدل نمو بالسالب بلغ سالب 5.6 بالمئة في 2019 وسط توقع انكماش اقتصادي في 2020 بنسبة  25 بالمئة.

 

وفي عام 1960 بلغ الناتج المحلي الإجمالي اللبناني 830 مليون دولار (أعلى من سنغافورة بنحو 15.5% التي بلغ ناتجها المحلي في ذلك الوقت 700 مليون دولار)، وفي 2019 بلغ الناتج المحلي اللبناني 53.4 مليار دولار مقارنة بـ 372 مليار دولار لسنغافورة (أقل بنحو 600%)، وهو ما يعني أن الناتج المحلي لسنغافورة ارتفع 260 ضعفا، بينما ارتفع الناتج المحلي للبنان 64 ضعفا فقط، خلال 59 عاما، وفقا لحسابات “عربي21“.

 

مراحل فاصلة

وشهد الاقتصاد اللبناني خلال رحلة سقوطه من العصر الذهبي وصولا إلى حافة الهاوية مراحل فاصلة وأحداثا محورية، أثرت بشكل كبير سلبا وإيجابا على مساراته ومؤشراته الرئيسية، من أبرزها اندلاع الحرب الأهلية التي استمرت بين عامي 1975 و1990، مرورا بالاجتياح الإسرائيلي في حزيران 1982، والأزمة السياسية في عهد الرئيس أمين الجميل في تشرين الثاني 1987، وتشكيل حكومة عسكرية في أيلول/ 1988، بعد تعذر انتخاب رئيس جديد للبلاد، ثم الإطاحة بها في 13 تشرين الأول 1990 ليسدل الستار على الحرب الأهلية، وتبدأ بعدها عملية إعادة الإعمار وتشكيل الحكومة الأولى لرئيس الوزراء رفيق الحريري في تشرين الأول 1992، وصولا إلى بدء الاحتجاجات الشعبية في البلاد ضد فساد الطبقة السياسية الحاكمة وما ترتب عليها من استقالة رئيس الحكومة سعد الحريري في تشرين الأول 2019، وتشكيل حكومة حسان دياب المدعومة من تيار حزب الله في 21 كانون الثاني 2020، قبل أن تستقيل في 10 آب الجاري إثر فاجعة انفجار مرفأ بيروت وتصاعد الغضب الشعبي وارتفاع حدة الضغوط عليها.

وأظهر مسح أجرته “عربي21” لسعر صرف الليرة اللبنانية خلال رحلة سقوط الاقتصاد اللبناني من القمة (ليرتان للدولار الواحد) إلى القاع (أكثر من 9000 ليرة للدولار الواحد) على مدار الـ77 عاما الماضية، تماسكا ملحوظا لليرة اللبنانية خلال بداية الثمانينيات رغم الحرب الأهلية التي انطلقت في العام 1975، قبل أن تبدأ العملة اللبنانية في الانحدار مع نهاية الثمانينيات وصولا إلى سعر صرفها الحالي.

 

ولعل ما ساهم في تماسك الليرة اللبنانية خلال فترة الحرب الأهلية، هو تغطية الليرة بكميات كبيرة من الذهب وصلت نسبتها إلى نحو 94 بالمئة، وهو ما عزز من قوة الليرة، وجعلها في ذلك الوقت من أقوى العملات المضمونة بالذهب. وفي 27 آب/أغسطس 1945 ثبتت السلطات اللبنانية سعر صرف الليرة مقابل الدولار عند 2.2 ليرة للدولار الواحد، وبعدها بنحو 4 أعوام حددت سعر صرفها بـ 0.4 غرام من الذهب الصافي، بموجب قانون النقد الصادر في 24 أيار 1949.

وعلى مدار نحو 17 عاما، وخاصة بين عامي 1964 و1981 تحرك سعر صرف الليرة اللبنانية في نطاق ضيق بين 3.2 و3.9 ليرات للدولار الواحد، قبل أن تهبط إلى مستوى 5.14 ليرات للدولار مع الاجتياح الإسرائيلي في حزيران 1982، وتبدأ رحلة السقوط حتى وصلت إلى مستوى أكثر من 9000 ليرة للدولار الواحد في تموز2020.

 

فاتورة السقوط

وقالت مديرة المعهد اللبناني لدراسات السوق، كريستيل المارديني، إن لبنان حصل في الماضي على لقب سويسرا الشرق بسبب النظام الاقتصادي الحر الذي يعتمد على دور القطاع الخاص ويقلل من تدخل الدولة أو الحكومة بالاقتصاد، بعكس الدور العربية التي تبنت النظام الاشتراكي حينها مثل سوريا ومصر.

 

وأضافت في حديث مع “عربي21”: “تبني نظام الاقتصاد الحر شجع المستثمرين المحليين والأجانب على وضع أموالهم واستثماراتهم في لبنان”، مشيرة إلى أن أي مستثمر أجنبي في ذلك كان يحق له إنشاء شركة وإدارة رأس ماله بكل حرية، وهو ما ساهم في جذب الدولار إلى البلاد“.

 

وأشارت المارديني، إلى أنه بعد الحرب الأهلية تغير النظام الاقتصادي في لبنان، وتدخلت الدولة بشكل أكبر في بسط سلطتها على الاقتصاد، وتوسعت في احتكار العديد من القطاعات الاقتصادية المختلفة مثل الكهرباء والطيران والانترنت.

 

وتابعت: “هذه الاحتكارات كانت الباب الخلفي للفساد الحكومي وإهدار أموال طائلة على هذه القطاعات بزعم التطوير، وهو ما أجبر الحكومة على اللجوء للاقتراض للإنفاق على هذه المشاريع، ما ساهم في تفاقم حجم الدين العام عاما بعد عام“.

 

وأوضحت أن غالبية الدول امتنعت عن إعطاء لبنان مزيدا من القروض خوفا من عدم قدرتها على السداد وهو ما حدث بالفعل فاضطرت الحكومة لطباعة كميات كبيرة من العملة المحلية لتعويض شح السيولة وتمويل نفقاتها، ما أدى تدهور قيمة الليرة اللبنانية ودخول البلاد مرحلة التضخم المفرط، وتحول لبنان من سويسرا الشرق إلى فنزويلا الشرق.

 

ووفقا لمديرة المعهد اللبناني لدراسات السوق، لم يعد لبنان في 2020 قادرا حتى على تعويض المتضررين من خسائر انفجار مرفأ بيروت، ولا إعادة الإعمار لأنه فقد ثقة المانحين ومؤسسات التمويل الدولية.

 

استعادة اللقب

وعن إمكانية عودة لبنان إلى عصره الذهبي واستعادة لقب سويسرا الشرق، قالت المارديني، أكيد يستطيع لبنان استعادة اللقب مجددا إذا عاد إلى النظام الاقتصادي الحر، وفتح المجال أمام المنافسة بين الشركات والمستثمرين في مختلف المشاريع والقطاعات الاقتصادية.

 

وأردفت: “هذا سيخفف الأعباء المادية على خزينة الدولة من ناحية، ومن ناحية أخرى سيتيح المجال أمام المواطن للاختيار بين الخدمات التي تقدمها الشركات، والحصول على خدمات جيدة بأسعار مناسبة“.

 

واقترحت المارديني أن تقوم الحكومة اللبنانية ببيع مرافق لبنان لشركات خاصة، لإعادة إعمارها وتشغيلها وتطويرها وتحسين خدمتها، قائلة: “بهذه الأموال يمكن للحكومة تعويض خسائر المتضررين من الانفجار، بدلا من طباعة العملة”.