ومع ذلك، يبرز الاهتمام الدولي بالتدقيق الجنائي المالي في تصريحات وفد صندوق النقد الدولي، فضلاً عن العديد من المسؤولين الأميركيين والأوروبيين، ولعل ما قاله الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون في المؤتمر الصحافي الذي عقده في ختام زيارته الاخيرة إلى لبنان خير دليل على هذا الخيار، فهو تعمد تصويب البوصلة عندما قال إنّ القوى السياسية التي اجتمع اليها تعهدت بخريطة طريق تشمل إصلاح المركزي اللبناني والنظام المصرفي، قائلًا: “النظام المصرفي اللبناني في أزمة. تم اقتطاع كثير من الأموال على الأرجح وكل شيء متوقّف الآن ولبنان لم يعد قادراً على تمويل نفسه، لذلك يجب إجراء تدقيق حسابي… هناك أموال لم تذهب للأهداف المحدّدة لها على الأرجح. لذلك نحن بحاجة إلى معرفة حقيقة الأرقام وبعد ذلك يجري اتخاذ إجراءات قضائية”.
السؤال المشروع إزاء ذلك هو، كيف يمكن لشركة alvarez أن تعمل وتصدر تقريرها ونتائج بحثها إذا قرر البنك المركزي الامتناع عن الاجابة عن الكثير من أسئلتها بالتوازي مع رفضه تقديم الكثير من المستندات المطلوبة وأسماء الموظفين الذي يحملون صفة التوقيع على التحويلات المالية؟
إذاً التدقيق الجنائي المالي، وفق ما يقول الخبير الاقتصادي والمالي، والمصرفي السابق دان قزي لـ”لبنان24″، يعني فحص وتقييم حسابات مصرفية وتعاون مزودي البيانات مع وفد شركة الفاريز، وهو يعتمد على نطاق العقد، ومع ذلك فهو يطرح اسئلة حيال بعض القوانين المحلية التي قد تساعد المصرف المركزي والمصارف كقانون السرية المصرفية الذي من شأنه أن يشكل ذريعة دامغة لعدم توفير المصرف المركزي البيانات المطلوبة؟
وباستغراب شديد، يشير إلى أنّ المفارقة تكمن في أن السرية المصرفية هي على الشعب اللبناني في حين أنّها معدومة بالكامل امام الخزانة الاميركية منذ سنوات، ولعل القوانين التي أقرت في العام 2015 في البرلمان اللبناني وتحت الضغط خير دليل على ذلك، هذا فضلا عن أن الشركة نفسها قامت بعمليّات تدقيق جنائي في دول تعتمد السريّة المصرفية من دون اية عوائق.
وبين تقاذف الاتهامات حيال الثغرات التي رافقت توقيع العقد، فإن الأكيد وفق قزي، أن التدقيق الجنائي هو الممر الأول والأساسي لحصول لبنان على الدعم والمساعدات، وهو من أبرز شروط صندوق النقد الدولي اسوة بالكثير من المنظمات الدولية المالية، عطفاً على مواقف كل من فرنسا وألمانيا والاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة الأميركية التي بعثت برسالة للمصرف المركزي عبر موفديها حثته فيها على التعاون مع شركة التدقيق المالي، مع إشارة قزي إلى أنّ مصرف لبنان قدم إلى الدوائر المعنية في باريس وواشنطن خلال الفترة الماضية جردة عن الحسابات المالية للأعوام 2016 2017 -2018.
من هذا المنطلق، يشكك قزي بما يقال إن الادارة الأميركية سوف تغض الطرف عن التدقيق المالي في المصرف المركزي، فصندوق النقد الدولي مصر على الذهاب نحو النهاية في هذا الملف، وإلا لا أموال ولا مساعدات.
فهل ستتحمل السلطة الحاكمة تبعات عرقلتها التدقيق المالي؟ الجواب لا.. لأن غياب الدعم الخارجي المنشود للبنان، يعني ذهاب مصرف لبنان إلى استخدام ما تبقى لديه من احتياطي وصولا إلى احتياطي الذهب، الأمر الذي سيزيد من الانهيار ويخلق واقعاً جديداً قد يطيح بما تبقى من إمكانيات صمود الشعب، الذي سيقف عاجزا أمام مواجهة المشكلات الاقتصادية والمعيشية المتصلة بالمحروقات وتفرعاتها والمواد الغذائية والدواء والمستشفيات، بحسب ما يؤكد قزي.
بناء عليه، فإن التدقيق الجنائي لا يعني تجريم احد بالفساد، يقول قزي، فهو الطريق نحو معرفة أين ذهبت أموال المودعين الذين يحق لهم أن يعلموا ما لحق بأموالهم ومحاولة اكتشاف عمليات التزوير والفساد واختلاس الأموال العامة في حال حصولها، فالتدقيق الجنائي هو مفتاح باب الإصلاحات المنشودة وسلوك الصراط المستقيم لخلاص لبنان اقتصادياً ومالياً، والا البلد ذاهب نحو “جهنم الحمراء”.
إما التدقيق الجنائي أو إلى… جهنم الحمراء!
في الشكل، تظهر القوى السياسية بمعظمها اندفاعاً مطلقاً نحو ضرورة سلوك مسار التدقيق الجنائي المالي بهدف معرفة المآل المالي والنقدي للبنك المركزي، وصولاً إلى عدد كبير من المؤسسات المصرفية والمالية. بيد أنّ الواقع الراهن ربطاً بما يجري في كواليس الصالونات السياسية، يكشف أن الأغلبية المطلقة من التيارات تسعى جاهدة لإيجاد السبيل الأوحد لتجاوز هذا التدقيق المالي وتجنيب أنفسها مرارة المحاسبة وربما العزل الخارجي.
يحاول العهد بشخص رئيس الجمهورية العماد ميشال عون وتياره السياسي البرتقالي الإيحاء بأنه سيكون رأس حربة لمواجهة من يضع العصي في دواليب التدقيق المالي الجنائي، لكن المشهد الحقيقي في بعبدا ووفق معلومات مؤكدة، يشي بأن المرجو والمنشود من هذا الطرح الإصلاحي دونه عقبات محلية- داخلية كثيرة تضعها قوى سياسية بارزة، فضلا عن الانقسام الحاصل داخل الحزب الواحد حيال جدوى التدقيق المالي، وهذا يعني أنّ هناك تسليمًا إلى حدٍ كبير بأنّ التدقيق الجنائي المالي قد سقط، علمًا أن قيمة العقد تصل إلى مليوني دولار.