لبنان في قلب الانهيار.. من يجهض التدقيق الجنائي؟

15 نوفمبر 2020
لبنان في قلب الانهيار.. من يجهض التدقيق الجنائي؟

كتبت جنى الدهيبي في “الجزيرة”: في وقت تبدو فيه الحلول عالقة في مختلف الأزمات التي يواجهها لبنان، يستمر التدهور الاقتصادي الذي بدأ نهاية 2019، ومنذ ذلك الحين، يتوالى أكبر انهيار مصرفي في تاريخ لبنان الحديث، ويترافق مع انهيار مواز في سعر العملة الوطنية؛ إثر هبوط الليرة اللبنانية أمام الدولار الأميركي بما يتجاوز 80%.


ودفع هذا الأمر المصارف اللبنانية إلى فرض قيود مشددة على حسابات مودعيها، بعد أن تبين وجود فجوة خسائر كبيرة في حسابات مصرف لبنان، تتجاوز تقديراتها 63 مليار دولار أميركي.

ويبدو أن كل المطالب الشعبية لوقف الانهيار لم تصل إلى جدوى، وكان آخر الفصول عرقلة التدقيق الجنائي في حسابات مصرف لبنان المركزي، بعد أن مددت السلطات اللبنانية مهلة 3 أشهر إضافية لتسليم المستندات التي تطالب بها شركة “ألفاريز آند مارسال” (Alvarez & Marsal) الموكلة بالتدقيق.

السرية المصرفية
بدأت قصة التدقيق الجنائي في نسيان 2020، حين قررت الحكومة اللبنانية الاستعانة بالشركة العالمية “كرول” (Kroll)، لكن في نهاية حزيران الماضي، أعلن وزير المالية عدم توقيع العقد مع هذه الشركة، بحجة أنها على علاقة مع الموساد الإسرائيلي، وتكشف معطيات مصرفية لإسرائيل، وبعد سجال طويل داخل الحكومة وبين الأقطاب السياسية، وقّع الوزير في نهاية آب الماضي -أي بعد استقالة الحكومة- عقدا للتدقيق الجنائي مع الشركة الأميركية “ألفاريز آند مارسال” ومقرها في نيويورك، بالإضافة إلى عقدين آخرين مع شركتي “كي بي إم جي” (KPMG) و”أوليفر وايمان” (Oliver Wyman) للتدقيق المالي والحسابي.

وما أفضى لتمديد مهلة عمل الشركة 3 أشهر هو الاصطدام بمسارين: فمن جهة ترى الشركة أنها لم تتسلم أكثر من 100 مستند طلبت الحصول عليها من المصرف المركزي، وأن المعلومات القليلة التي زودها بها غير كافية لبدء التدقيق الجنائي. ومن جهة أخرى، تسلح حاكم المصرف رياض سلامة باستقلاليته، مؤكدا أنه سلم المستندات التي يسمح له القانون بتسليمها، مقابل امتناعه عن تسليم كل ما هو خاضع لقانوني “السرية المصرفية” و”النقد والتسليف” في لبنان.

وعليه، دخل التدقيق الجنائي في نفق التجميد، إثر تضارب قانوني واضح، نتج عن تعارض عقد شركة “ألفاريز” مع القوانين اللبنانية، في حين يعتبر مراقبون للملف أن العقد في الأصل كان مفخخا من الجهة اللبنانية، إذ ينص بوضوح على أن عمل الشركة يخضع للقوانين المرعية في لبنان.

وقبل تمديد المهلة مع “ألفاريز”، كان وزير المالية أرسل لحاكمية مصرف لبنان كتابا تضمن دراسة من وزيرة العدل في حكومة تصريف الأعمال ماري كلود نجم، أعدتها بناء على استشارة من هيئة التشريع والاستشارات في وزارتها، معتبرة فيها “أن السرية المصرفية الملحوظة في القانون اللبناني لا تسري على حسابات الدولة وحسابات مصرف لبنان”.

لكن المركزي رد حينها بأن الدولة اللبنانية هي من عليها طلب كشف مفصل عن كامل حساباتها، كي تجنب مصرف لبنان مخالفة قوانين السرية المصرفية، التي تترتب على مخالفتها عواقب جزائية.

وفي السياق، تدافع وزيرة العدل عن التدقيق الجنائي، وتعتبر، في تصريح للجزيرة نت، أن الخيار البديهي للحكومة كان البحث عن سبيل للتدقيق، لأن اللبنانيين لا يستطيعون الوصول إلى ودائعهم، من دون أن يقدم المصرف المركزي أرقاما رسمية حول خسائره.

وتشير إلى أن الحكومة لجأت للتدقيق الجنائي بعد أن اتخذت في آذار 2020 قرارا بالتخلف لأول مرة في تاريخ لبنان عن تسديد إصداراته من “اليوروبوندز” (سندات دين الدولة بالعملات الأجنبية) وعدم دفع مستحقاته، حفاظا على ما تبقى من نقد احتياطي لدى مصرف لبنان بالعملة الصعبة، لتمديد مهلة دعم المحروقات والسلع الأساسية.

وتحمّل الوزيرة نجم المصرف المركزي مسؤولية تمديد مهلة عمل الشركة 3 أشهر، في ظل تفاقم الانهيار في لبنان، وذكرت أنه حسب العقد الموقع مع الشركة، فإنها لن تتسلم أسماء بل أرقاما ترميزية، وفي حال أدانت جهة ما، يُشار إليها بالترميز الرقمي.

وأكدت نجم أن هيئة التشريع والاستشارات في وزارة العدل استندت إلى مراجع فقهية وتشريعية، لتظهر أن الأرقام الترميزية لا تعني إفشاء السرية المصرفية.

وفي حال فسخ العقد بعد مهلة التمديد له، فستدفع الدولة اللبنانية للشركة 150 ألف دولار أميركي، أما في حال استطاعت إتمام مهمتها، فتكون الكلفة 2 مليون و100 ألف دولار أميركي، حسب وزيرة العدل، التي تعتبر أن خسارة أي مبلغ من دون إنجاز التدقيق الجنائي، سيكبد لبنان خسائر إضافية.

تعثر القانون
من جهة أخرى، ثمة من يجد أن امتناع رياض سلامة عن تسليم كل المستندات المطلوبة لشركة “ألفاريز” على حق، ويشير الرئيس السابق للجنة الرقابة على المصارف اللبنانية سمير حمود إلى أن اللجوء للتدقيق الجنائي جاء في وقت غير مناسب، نتيجة الإمعان في تشويه سمعة القطاع المصرفي.

وقال حمود، للجزيرة نت، إنه إذا كان المقصود هو التدقيق في الهندسات المالية، فكان بإمكان المصرف المركزي أن يأخذ على عاتقه مهمة التدقيق تحت إشراف مكاتبه في الخارج، وبعيدا من الإعلام لاتخاذ الإجراءات اللازمة على ضوء ما تصل إليه التحقيقات.

ويعتبر حمود أن مطالبة الشركة ببعض المستندات يخالف بوضوح قانون السرية المصرفية، ويذكر أن المادة 151 من قانون النقد والتسليف تمنع مصرف لبنان من الكشف عن عمليات مودعيه؛ وبالتالي لا يمكن مخالفة القانون بحجة الظرف الاستثنائي، ويرى أن ما يستطيع المصرف المركزي تقديمه لـ”ألفاريز” هو أرقام إجمالية وليست أرقام التحويلات، وأن تمديد مهلة عملها لن يحل العوائق القانونية التي تمنع كشف السرية المصرفية.

ووجه مراقبون أصابع اللوم إلى لجنة المال والموازنة في البرلمان اللبناني، لأنها لم تتحرك لإنجاز مشروع قانون يزيل عقبات السرية المصرفية، وهو ما رجح نظرية أن العقد مع “ألفاريز” كان مفخخا.

لكن عضو اللجنة النائب ياسين جابر يوضح للجزيرة نت أن تجميد عمل الشركة كان طبيعيا في ظل فراغ حكومي بانتظار تشكيل حكومة سعد الحريري، ولا ينبغي وفقه تحميل البرلمان مسؤولية ذلك.

ويعتبر أن الاكتفاء بالمطالبة بالتدقيق الجنائي في حسابات مصرف لبنان أخذ طابعا سياسيا، في حين كان المطلوب التدقيق في كل حسابات المؤسسات المشكو منها، بدءا من شركة كهرباء لبنان التي كبدت لبنان خسائر بمليارات الدولارات، مشيرا إلى أن البرلمان سبق أن أقر عدة قوانين متعلقة بالإثراء غير المشروع وجرائم الاختلاس.

مطالبة الشركة الموكلة بالتدقيق الجنائي ببعض المستندات يخالف بوضوح قانون السرية المصرفية الذي يحمي ودائع الناس (رويترز)
إجهاض التدقيق الجنائي
يخشى كثيرون من ألا يصل التدقيق الجنائي إلى نتيجة، نظرا للمطبات التي يواجهها، وسبق أن قال بيار دوكان مبعوث الرئيس الفرنسي لتنسيق الدعم الدولي للبنان إن “عدم إجراء التدقيق الجنائي يعني اختفاء لبنان”.

وفي السياق، يعتبر الخبير الاقتصادي دان قزي أن من حق اللبنانيين معرفة أين ذهبت ودائعهم المقدرة بمليارات الدولارات، ويرى أن التدقيق الجنائي مطلب الدول الأوروبية، وأبرز شروط المبادرة الفرنسية.

ويذكر قزي أن صندوق النقد الدولي لن يمنح لبنان أي قروض أو مساعدات ما لم يكشف عن مصادر الخسائر التي ألمت بميزانيات المصرف المركزي طوال السنوات المنصرمة، مشيرا إلى أن أميركا أرسلت رسالة خطية في أواخر آب للمصرف المركزي تحثه على ضرورة إنجاز هذا التدقيق.

ويرجح قزي عدم رغبة مختلف القوى السياسية في التدقيق الجنائي، وسأل عبر “الجزيرة نت” ردا على التحجج بقانون السرية المصرفية: أليس من الجرم أن تخالف المصارف القانون بحجز أموال مودعيها منذ نحو 15 شهرا من دون وجه حق؟

ويعتبر قزي أن تعليق عمل الشركة ليس لصالح لبنان، لأنه سيضطر في نهاية المطاف إلى تنفيذ “التدقيق الجنائي” كمطلب دولي، “مقابل استمرار استنزاف احتياطي مصرف لبنان.

وبانتظار ما ستؤول إليه مهلة التمديد للشركة، يختصر قزي تداعيات عدم إنجاز “التدقيق الجنائي” في نقاط عدة، أبرزها: إبقاء هوية المتسببين في الكارثة المالية مجهولة، وبالتالي عدم محاسبتهم، وخسارة آخر فرصة لاستعادة ثقة المجتمع الدولي، مما يعني حجب المساعدات الدولية عن لبنان، لأن التدقيق الجنائي الذي يجب أن يشمل كل مؤسسات الدولة هو العتبة الأولى للانتقال إلى مرحلة الإصلاحات البنيوية التي تحتاجها البلاد.