كتبت رلى ابراهيم في “الأخبار”: بعد انفجار المرفأ يوم 4 آب، تنبّه المعنيون فجأة إلى وجود مواد خطرة، غير تلك التي انفجرت، قابعة في المرفأ منذ أكثر من 11 عاماً! وتحت وطأة «الذعر» ودواعي العجلة، كلفت شركة ألمانية نفسها بنفسها التخلص من 49 مستوعباً، مصنّفة خطرة، من دون الاستحصال على أي ترخيص من أي دولة أوروبية، وصاغت قيمة العقد وبنوده بتوقيع من إدارة المرفأ. ثمن «الذعر» والإهمال الوظيفي 2 مليون دولار، ومليون و600 ألف دولار إضافية ستُحسم من المنح والهبات الأوروبية التي لم تصل بعد إلى لبنان!
ليس تاريخ 4 آب 2020، مجرد تاريخ لانفجار حصل نتيجة سلسلة من «المصادفات السيئة». كان يمكن بداية التسليم بهذا القول، إلا أن ما يجري فعلياً في المرفأ يكشف فضائح بالجملة وإهمالاً أقلّ ما يقال عنه إنه متعمّد، ونتيجته إما تهديد للسلامة العامة، أو تبديد للمال العام. فقد تبيّن أخيراً وجود 49 مستوعباً تحتوي على مواد مصنفة خطرة جداً، يرقد بعضها في باحة المستوعبات في المرفأ منذ عام 2009! ورغم حدوث الانفجار الكبير منذ أكثر من 3 أشهر، لم تجد إدارة الجمارك نفسها معنية بإزالة هذا الخطر الداهم على سلامة الناس والعاملين في المرفأ… إلى أن قرر الرئيس المدير العام لإدارة واستثمار مرفأ بيروت باسم القيسي بتاريخ 13 و22 من شهر آب الماضي، إرسال كتابين إلى المدير العام للجمارك ريمون خوري يطلب فيهما شحن أو إزالة أو تلف المستوعبات التي تحتوي على مواد خطرة ومضرّة وأرفق له لائحة بالمستوعبات. هذه المواد، وفقاً للائحة التي اطلعت عليها «الأخبار» مؤلفة من سوائل قابلة للاشتعال، غازات سامة، غاز قابل للاشتعال، مواد صلبة قابلة للاشتعال، متفجرات منزوعة الحساسية، مواد ذاتية التفاعل، مواد معرضة للاحتراق التلقائي ومواد مسبّبة للتآكل. وقد تم إدخال هذه المستوعبات بتواريخ مختلفة بدءاً من عام 2009 وبصورة منتظمة حتى عام 2017، فتُركت، كما نيترات الأمونيوم في المرفأ. جرى ذلك بعلم من إدارة الجمارك التي تملك صلاحية التصرف بالبضاعة بعد مرور 6 أشهر على وجودها في الباحة. إلا أنه لم تتم مراجعة أصحاب المستوعبات لإجبارهم على رفع البضاعة وصولاً إلى اتخاذ إجراءات قضائية بهذا الخصوص. بتاريخ 3 من شهر أيلول الماضي، أرسل القيسي كتاباً ثالثاً إلى خوري بالموضوع نفسه، يطلب فيه إزالة هذه المستوعبات فوراً خصوصاً مع تسرب المواد الخطرة منها. وأُرسلت نسخة من الكتاب إلى وزارة الأشغال العامة والنقل. ما حصل بعدها هو طلب إدارة الجمارك تنازل وزير المال، استثنائياً، عن تلك المستوعبات لمصلحة الجيش اللبناني كي يقوم بإزالتها والتخلص منها، «حيث لا قدرة للمرفأ على معالجة تلك المواد بوضعها الحالي كونها تحتاج إلى خبرات وتقنيات غير متوفرة محلياً». كان يفترض هنا بالجيش أن يعمد إلى تلفها. لكن تقول المصادر إن المؤسسة العسكرية لا تملك التقنية اللازمة ولا الموقع لاتخاذ هذه الإجراءات، وقامت بتخفيف خطر المواد عبر فصل بعضها عن بعض وتغطيتها بالرمل ونقلها إلى مكان آمن في المرفأ. وبعد شهرين من الأخذ والرد بين إدارة المرفأ والجمارك ووزارة الأشغال والجيش ومجلس الوزراء ورئاسة الجمهورية حصل فيهما تقاذف للمسؤوليات، أثير الموضوع في الجلسة الأخيرة للمجلس الأعلى للدفاع، فطلب رئيسا الجمهورية والحكومة، تحت وطأة «الذعر»، الإسراع بإيجاد أي حلّ لنقل هذه المواد خارج لبنان تفادياً لمصيبة جديدة. ما سبق هو الجزء الأول من الإهمال الوظيفي الذي كان يمكن أن يتسبب بحريق إذا ما وُجدت الشرارة لذلك. فالمستوعبات، وفق ما قال القيسي لـ«الأخبار»، مهترئة وتتسرّب منها المواد الخطرة.
الشركة الألمانية تفرض عقداً بالتراضي
الجزء الثاني من القضية يكمن في الحل «السحري» لإزالة هذه المستوعبات. فأمام إلحاح الرئيسين عون ودياب، عرض المدير العام لإدارة واستثمار مرفأ بيروت عقداً مقترحاً توقيعه مع شركة ألمانية تدعى «كومبي ليفت» لإزالة وإتلاف المستوعبات الـ 49، مشيراً في كتابه الى أن الإدارة طلبت من الجيش الفرنسي الموجود في المرفأ المساعدة على إزالة هذه المستوعبات، لكنه اعتذر عن عدم تلبية الطلب! لكن كيف تم تكليف الشركة الألمانية؟ يشير القيسي في كتابه أيضاً إلى أن «كومبي ليفت» كانت موجودة في المرفأ وتتفاوض مع شركة رجل الأعمال مرعي بو مرعي لإزالة الزيوت المتسربة من باخرته. وقد تقدمت الشركة الألمانية من إدارة المرفأ بواسطة الجمعية اللبنانية للأعمال التي يرأسها رجل الأعمال الناشط محلياً ايلي أسود، بعرض نقل وإزالة وإتلاف تلك المواد عبر إعادة تحميلها في مستوعبات خاصة ونقلها الى خارج الأراضي اللبنانية. والعقد المقترح توقيعه بالتراضي، تبلغ قيمته 3 ملايين و600 ألف دولار، يسدد منها مرفأ بيروت 2 مليون، فيما تتحمل الشركة مبلغ 1 مليون و600 ألف دولار.
تم توقيع العقد رغم إشارة القيسي في نهاية الكتاب الى أن الأفضل برأي الإدارة هو «إطلاق مناقصة أو الحصول على عروض من جهات أخرى غير هذه الشركة إن أمكن، حيث نرى أن المبلغ المحدد من قبل الشركة الألمانية مرتفع. ولهذه الغاية، نحن على أتمّ الجهوزية لإطلاق هذه المناقصة أو استدراج العروض في حال أذنت الجهات المختصة بمزيد من الوقت لإتمام هذه المناقصة». رُفع العقد الى وزارة الأشغال التي طلبت موافقة استثنائية من الرئيسين، بناءً على طلبهما المستعجل، لتوكيل إدارة المرفأ (ليست صاحبة الصلاحية) بتوقيع هذا العقد بالتراضي.
ثمة مجموعة من الأسئلة التلقائية هنا والتي لم تجد أي جواب واضح من المعنيين. جلّ ما حصل هو أن الذعر كلف لبنان مليوني دولار، وسيقفل الملف مرة أخرى من دون محاسبة المسؤول عن إثارة هذا الذعر، وعن تركه هذه المواد لسنوات في مستوعبات في وسط المدينة. من جهة أخرى، كيف تمّ الوقوع على الشركة الألمانية؟ هل هي الصدفة كما يؤكد الجميع، أم أن ثمة قطبة مخفية أدت الى تنظيم العقد معها دون سواها؟ ومَن المستفيد في هذه الحالة؟ أما السؤال الرئيسي، فهو لماذا تُرك الأمر ــــ رغم الخطر الذي يشكله ــــ ثلاثة أشهر كاملة وحمل طابع العجلة الأسبوع الماضي فقط؟ ولماذا لم يتم الإعداد لمناقصة أو استدراج عروض منذ ذاك الوقت للحصول على العرض الأفضل، ولا سيما أن الدولة اللبنانية لا تحتمل ترف إهدار ولو سنت إضافي؟
في العقد المنظّم من شركة «كومبي ليفت» بتاريخ 9/10/2020، والذي حصلت «الأخبار» على نسخة منه، تقول إن «إدارة المرفأ اتخذت المبادرة بالتواصل مع الشركة». إشارة هنا الى أن «كومبي ليفت» هي من أعدّت العقد وأرسلته الى إدارة المرفأ، من دون أن يكون للأخيرة أي تعليق على بنوده، ومن دون أن تكون قد فاوضت على قيمة العقد واطّلعت على تفاصيله بما يشير إلى أنه تم فرضه. من جهته، يؤكد القيسي أن «ثمة بنداً في العقد يتضمن تقديم الشركة طلباً للدولة الألمانية والاتحاد الأوروبي لإعادة هذين المليونين. لذلك لن يكون هناك أي كلفة على لبنان الذي سيستردّ المال المدفوع ما إن تستأنف المساعدات الأوروبية مجدداً المرتبطة بتأليف الحكومة. لكن التوقيت أحرجنا، ونرى أن العناية الإلهية هي التي أوجدت هذه الشركة لمساعدتنا على تفادي أي حريق أو انفجار»! ويذكر القيسي أن «الاتحاد الأوروبي وفي خلال دراسة أعدّها، قدّر كلفة إزالة هذه المواد بخمسة ملايين دولار». لكن أنتَ ذكرت في كتابك أن كلفة نقل الشركة الألمانية مرتفعة؟ «فعلتُ ذلك ربطاً بواجباتي الإدارية»، أجاب القيسي، علماً بأنه في العقد بين «كومبي ليفت» وإدارة المرفأ، تذكر الشركة أن «الدولة الألمانية هي إحدى دول الاتحاد الأوروبي الساعية إلى مساعدة لبنان، وجزء من الدعم المالي قد يكون بتغطية ما ستدفعه إدارة المرفأ. ستبذل الشركة جهدها لنيل الموافقات اللازمة لذلك». إذا لم تؤكد الشركة أن هذا المبلغ ستتم تغطيته، بل ذكرت حصراً أنها ستسعى إلى تأمين مساعدة مالية لسدّ الدفعات اللبنانية، مع العلم بأن هذه المساعدات ربما لن تأتي، بناءً على التهديدات الغربية المتواصلة بعدم مساعدة الدولة اللبنانية وقصر المساعدة على المجتمع المدني.
المساعدة على تسديد جزء من ثمن الصفقة تبقى في إطار الوعود. أما الثابت، فهو أن الشركة اشترطت على الإدارة فتح اعتماد بقيمة 2 مليون دولار في مصرف لبنان، صالح لمدة 180 يوماً، على أن يتم دفعه على دفعتين: 1 مليون دولار عند شحن المواد الخطرة على الباخرة التي ستتوجه الى وجهة أوروبية (لم تحدد) و1 مليون عند إظهارها دليلاً على أن المواد الخطرة نقلت الى ألمانيا أو أي وجهة أوروبية أخرى، على أن تتوافق مع أنظمة الاتحاد الأوروبي. بمعنى آخر، الشركة المكلفة بإزالة المواد الخطرة لم تحصل بعد على أي موافقة لا من ألمانيا ولا من أي دولة أوروبية لاستقبال المستوعبات المحملة من لبنان. ولا أحد يعلم ما إذا كانت ألمانيا ستقبل إتلاف مواد مضرّة للبيئة في أراضيها، أم أن البضاعة ستعود الى مرفأ بيروت بعد دفع مليون دولار مسبقة الى الشركة الألمانية.
لقراءة المقال كاملا اضغط هنا