لم يكن مفاجئا إنهاء شركة “الفاريز أند مارسال” الاتفاقية الموقعة للتدقيق المحاسبي الجنائي. فانسحابها كان متوقعا ويشكل جزءا لا يتجزأ من “المُخطط السياسي” الذي يعود إلى بداية مرحلة اقتراح عملية التدقيق الجنائي المالي، يقول الخبير القانوني الدولي في الشؤون الإقتصادية المحامي د. علي زبيب لـ”لبنان24″؛ فالسلطة السياسية أمعنت عن سابق تصور وتصميم على تطيير وتفشيل عملية التدقيق الجنائي بطرق مختلفة، حيث بدأ الأمر باختيار شركات مشبوهة (كرول على سبيل المثال)، واخرى واقعة في تضارب مصالح، مروراً بالإتفاق على شركة الفاريز الذي شابته عيوب كبيرة، خاصة وأنها ليست شركة متخصصة بالتدقيق الجنائي، وصولاً إلى المأزق الذي وقع لبنان به في الوقت الراهن وعلى نتائج عملها.
لا شك في أن زبيب وهو من الخبراء الذين واكبوا هذا الملف الجنائي المالي، كان أول من أبرز وكرر مراراً أنّ التدقيق الجنائي سيصطدم بعوائق عديدة، منها المادة 151 من قانون النقد والتسليف التي تحدد عمل مصرف لبنان وصلاحياته وآليات عمله، وتحمي نظام السرية المصرفية الذي تذرع بها حاكم البنك المركزي رياض سلامة لعدم تقديم المستندات والمعلومات المطلوبة لوفد الشركة، علما ان رأي هيئة الاستشارات في وزارة العدل كان واضحا لجهة التأكيد أن مصرف لبنان ملزم بتنفيذ قرار مجلس الوزراء الذي أقرّ التدقيق الجنائي.
اليوم فازت السلطة السياسية بجولة فرط عقد التدقيق، لكن المعركة ستبقى قائمة، خاصة وأن التدقيق الجنائي يمثل الخطوة الأولى في مسار محاسبة المرتكبين؛ يقول زبيب، لكن في الوقت نفسه طالما ان السلطة السياسية قائمة، فإن استحالة التعاقد مع اي شركة جديدة جدية لاجراء التدقيق الجنائي المالي ستكون سيدة الموقف بغض النظر عن ماهية الحكومة.
ومع ذلك، من الممكن تقنياً لأية حكومة القيام باستدراج عروض تمهيدا للتفاوض. فعقد اتفاق مع شركة كفوءة ووفق اسس علمية وقانونية وواضحة، لكن لا بد، وفق زبيب، من قطع الشك باليقين لجهة عدم سريان السرية المصرفية على اي من الحسابات العمومية بما فيها مصرف لبنان. من هنا فإذا صدقت نيات السلطتين التشريعية والتنفيذية بأهمية التدقيق الجنائي المالي واستعادة الاموال المنهوبة وفتح باب المحاسبة، فإن الطريق الأسهل لذلك، يكمن في ضرورة إقرار اقتراح قانون معجل مكرر من مادة واحدة يرفع جميع قيود السرية المصرفية عن الحسابات العمومية ولا يكون موقتاً، خاصة وأن رفع السرية المصرفية ليس طعنا بالنظام المصرفي اللبناني الذي تبين أنه قائم على عمليات مضاربة وهمية وغير قانونية، فضلا عن أنه أثبت فشله عند أول أزمة حقيقية عصفت بالبلد وخسر الثقة لأجيال قادمة مع خسارة المودعين لاموالهم، وليس بعيداً فإن هيئة التحقيق الخاصة متلكئة ويجب ان تحاسب بالقضاء الذي يبدو أيضا أن بعضه متواطئ وخاضع للسلطة السياسية، لا سيما وان السرية المصرفية لا يعتد بها أمام هيئة التحقيق الخاصة.
إذا السرية المصرفية ليست أكثر من وهم لا سيما في ظل قوانين تبادل المعلومات الضريبية إلى غيرها من قوانين العقوبات والتشريعات الدولية، يقول زبيب، فتطبيق قانون تبادل المعلومات الضريبية CRS Common Reporting Standards جعل مستقبل السرية المصرفية المطلقة صعباً من الناحية التقنية، وعليه أصبحت السرية المصرفية أداة واضحة لتغطية الأعمال المشبوهة ومنها الفساد ونهب الأموال العامة وغيرها من الجرائم المالية.
وسط ما تقدم، كيف العمل على التخفيف من وطأة خطوة الإطاحة بشركة الفاريز خاصة وأن صندوق النقد الدولي لن يقبل بأن يساعد لبنان الا ان حصل التدقيق الجنائي لتبيان الحقائق المالية المطلوبة؟
لقد اشترط صندوق النقد اجراء محاسبة عامة ولم يشترط التدقيق الجنائي بشكل خاص، وان كانت عملية المحاسبة تنطلق من التدقيق الجنائي، لكن المفارقة تكمن، بحسب زبيب، في أن المؤسسات المالية الدولية لا تتعاطى مع لبنان وفق قواعد وأسس اقتصادية بحتة فهي تأخذ بعين الاعتبار الابعاد السياسية ايضاً؛ فما يدعو للخشية ويثير الريب أن تمضي المنظمات المالية الدولية في دعم أية حكومة قد تتألف من المنظومة السياسية الحالية بغياب التدقيق الجنائي والاصلاحات المرجوة، الامر الذي سوف يكون بمثابة دق مسمار جديد في نعش لبنان وطعنة جديدة للشعب اللبناني الذي يأمل أن تلجأ هذه المؤسسات الى مقاطعة كاملة لاي حكومة او سلطة سياسية امعنت بالفساد وافلست البلد.
من هنا، لا بد من التأكيد أن من ضرب التدقيق الجنائي، هو نفسه من عطل تطبيق الكابيتال كونترول، بدليل أن كل الاقتراحات التي قدمت في هذا الاطار قد سُحبت، وهي اصلا لم تكن إلا لذر الرماد في العيون علما أن الكابيتال كونترول أصبح اليوم لزوم ما لا يلزم وغير ذي جدوى، فهو فقد قيمته كليا وكان يفترض أن يتم إقراره في التوقيت المناسب أي بعد تاريخ 17 تشرين الاول الماضي مباشرة.
ليبقى الاكيد، وفق زبيب، أن معركة المحاسبة تتألف من جولات عديدة، وقد رَبحت السُلطة السياسية هذه الجولة عبر إقصاء التدقيق الحنائي، مما يُحتّم ضرورة عدم الإستسلام والمثابرة لحين البدء بعملية المحاسبة عبر الإصرار على إعادة عجلات التدقيق الجنائي المالي.