مع إقتراب العام 2020 من نهايته، سوف تبدأ الارقام في الظهور تباعاً، والتي على أساسها يمكن إطلاق تقديرات في شأن الوضع المالي، وفرص الإنقاذ المُتاحة انطلاقاً من الحقائق الجديدة.
رغم أنّ الأجهزة الرسمية عاجزة عن اعطاء أرقام دقيقة للقطاعات وفي مجالات كثيرة، إلّا أنّ بعض المعطيات التي فرضت نفسها حتى الآن، تؤكّد أنّ الاقتصاد يعاني نكسة تُعتبر خطيرة في ميزان الدول التي تواجه أزمات تعثّر وإفلاس. ويمكن هنا إيراد مؤشرين خطيرين يمكن البناء عليهما لتقدير خطورة الوضع.
المؤشر الاول، يتعلق بحجم الاقتصاد (GDP) الذي تراجع بنسبة قاربت الـ70% في غضون بضعة أشهر. وانخفض من حوالى 52 مليار دولار، الى حوالى 18 مليار دولار. هذه النسبة تُعتبر قاسية جداً. وعلى سبيل المثال، ومن خلال المقارنة مع اليونان والارجنتين، يتبين انّ الاولى لم تشهد في أزمة الافلاس، هذه النسبة من الانخفاض في حجم اقتصادها. وسجّل الاقتصاد اليوناني التراجع الأكبر بين 2014 و2015، حيث انخفض من 237 مليار دولار الى 196 ملياراً، أي ما نسبته حوالى 18%. في المقابل، سجّل الاقتصاد الارجنتيني أسرع انخفاض له في العام 2001، حيث تراجع بنسبة تقارب الـ70%، (من 268 مليار دولار الى 98 ملياراً) وهي شبيهة بالنسبة التي سجّلها الاقتصاد اللبناني.
وهنا تنبغي الاشارة، الى أنّ الاقتصاد الارجنتيني استعاد زخمه من حيث الحجم بسرعة اكبر من الاقتصاد اليوناني. وفي تفسير هذه الظاهرة، إنّ الارجنتين عمدت الى تجميد سحب الودائع من المصارف في قرار أُطلق عليه مصطلح «كوراليتو» Corralito . وكان ذلك بمثابة تمهيد لتعويم سعر صرف البيزو. وخسر المودعون من خلال هذه العملية نسبة مرتفعة من ودائعهم.
في مقارنة النموذجين اليوناني والارجنتيني، يتبين انّ المودعين دفعوا الثمن في الارجنتين على عكس اليونان. لكن هذا الوضع ساهم لاحقاً في مساعدة الاقتصاد الارجنتيني في النمو بسرعة اكبر. في حين انّ اليونان حافظت على الودائع، مع «هيركات» بسيط واختياري على طريقة الـBail-in. وبطبيعة الحال، لم تلجأ أثينا الى تعويم عملتها، لأنّها تستخدم اليورو المحمي من البنك المركزي الاوروبي. وهذا ما يفسّر لماذا استغرقت اليونان وقتاً أطول لإعادة تكبير حجم اقتصادها، على عكس الارجنتين، التي نما اقتصادها بسرعة. لكن الفرق ايضاً، انّ اليونان نجحت في فترة زمنية قصيرة نسبياً في العودة الى الاسواق العالمية للاقتراض، في حين انّ الارجنتين، ورغم نمو اقتصادها النسبي، ظلت تعاني من عزلة على مستوى الاسواق، وظلت تعاني من هبوط وصعود، بحيث يمكن القول، انّ أزمتها المالية امتدت لثلاثين أو اربعين سنة، ولا تزال.
خلاصة القول، في هذا الموضوع بالنسبة الى لبنان، انّ هبوط حجم الاقتصاد بهذه النسبة الكبيرة يجعل الامل في الإقلاع مجدداً، من دون «هيركات» أشد تعقيداً. وسيكون الخيار، اذا وصلنا الى مرحلة بدء تنفيذ خطةٍ للانقاذ بالتعاون مع صندوق النقد، بين الانتظار لسنوات طويلة، قبل استعادة حجم الاقتصاد الحالي، أو التضحية بقسم من الودائع لإعادة حجم الاقتصاد الى ما هو عليه في غضون 3 أو 4 سنوات.
المؤشر الثاني، يتعلق بوضع المصارف التي ستكون الركيزة التي سيتمّ الاعتماد عليها في تنفيذ أية خطة للتعافي. وهنا يُطرح السؤال حول التعميم الذي أصدره مصرف لبنان، وأعطى فيه المصارف مهلة حتى شباط 2021 لزيادة رساميلها، واستعادة قسم من الاموال التي خرجت من النظام المصرفي منذ العام 2017. واذا اعتبرنا انّ القسم المتعلق باستعادة نسبة من الاموال التي خرجت لن ينجح، كما تفيد المعلومات المتوفرة حتى الآن، فإنّ السؤال سيكون حول جدوى تنفيذ الشق المتعلق بزيادة الرساميل، اذا كان الوضع باقياً على ما هو عليه اليوم؟ وكيف سيتمّ تحفيز المستثمرين على ضخ اموال اضافية في قطاع يتعرّض لأزمة غير مسبوقة؟ وهل يمكن جذب أي قرش اضافي، الى مصارف وصلت اسعار اسهمها (GDR) في بورصة لندن الى مستويات مُرعبة، بحيث هبطت الى ما دون الـ20 سنتاً، (كانت قبل الأزمة فوق الـ6 دولارات)، في مؤشر يؤكّد انّ الوقت الضائع يلتهم الثقة يوماً بعد يوم، وكلما أفرطت الدولة في تبذير الوقت، كلما ساهمت في ضرب القطاع المصرفي وقضت عليه. وهي بذلك تقضي على أي أمل باستعادة الودائع، أو بالاقلاع والخروج من الأزمة في فترة منطقية.
هذا الواقع يعني انّ الثمن الذي سيدفعه اللبنانيون، اذا هبط الوحي وبدأ الانقاذ غداً، سيكون باهظاً. اما اذا لم يهبط الوحي، وهذا هو المرجّح، واستمر الوضع على ما هو عليه لفترة أطول، فهذا يعني انّ الخيارات ستصبح محصورة بين مصيبةٍ ومصيبةٍ أكبر، ولا شيء غير ذلك”.