قبل النكبة التي حلّت بالشعب اللبناني، لم تكن عبارة “الإحتياطي الإلزامي” متداولة في قاموس اللبنانيين. هذا المصطلح الذي يُفترض أنّه نوع من الضمانة المصرفية لودائعهم في زمن المخاطر، بات اليوم مرادفاً للمخاطر، ولسرقة آخر فلس من مدخراتهم في المصارف، بعدما خانت الأخيرة الأمانة، وأقرضت كلّ أموالهم لدولة ناهبةٍ منهوبة. رئيس البلاد عندما تحدّث قبل أيام عن ضميره المرتاح، ربما لم يكن يدرك ما حصل لشعبه، أو ربما لم يقع نظره مرّة واحدة على ذاك المشهد اليومي البائس، حيث يقف اللبنانيون طوابير على أبواب المصارف، تمامًا كالمتسوّلين، ليس للحصول على قروض، بل لسحب القليل القليل من مدخرّاتهم.
احتياط المركزي بالعملات الصعبة استُنزف بسياسة الدعم لثلاثية السلع الأساسية، وما تبقى بالكاد يكفي لآخر السنة. في ظلّ عدم تأليف حكومة، يجد مصرف لبنان نفسه أمام خيارين، وقف لدعم، أو الإستمرار به، من خلال استخدام الإحتياطي الإلزامي. هذا الإحتياطي عبارة عن سيولة بالعملة الاجنبية تقدّر بحوالى 17 مليار دولار، وضعتها المصارف العاملة في السوق المحلية لدى البنك المركزي، تحسّباً لأيّ مخاطر قد تواجهها، واستخدامها يعني إنفاق ما تبقّى من اموال المودعين.
لعبة “عضّ الأصابع”
قد يكون التسريب الذي نسبته وكالة “رويترز” لمصادر، عن اتجاه المركزي لخفض الإحتياطي الإلزامي واستخدام جزءٍ منه في سياسة الدعم، كان لجسّ النبض، وعلى رغم أنّ الحاكم رياض سلامه نفاه، إلاّ أنّ طرحه ليس بريئاً في توقيته ومضمونه، بنظر البروفسور مارون خاطر الباحث في الشؤون الماليَّة والاقتصاديَّة، “هو نتيجة للقرار السياسي المتّخذ، كجزءٍ من لعبة “عضّ الأصابع” المتزامنة مع انسداد أفق الملف الحكومي“.
خاطر يرى في حديث لـ “لبنان 24” أنّ هامش المناورة المُتَضَيِّق يدفع المركزي إلى تحويل ما لا يجيزه القانون إلى جائز في زمن الأزمات. لذلك، يأتي الكلام عن الاحتياطي الإلزامي في إطار مفاضلة مشبوهة بين رفع الدعم، ووضع اليَدّ على آخر الأمانات، معتبرًا أنّ التسريب عبر رويترز مشبوهٌ أيضاً، لناحية استعمال مصداقيَّة المُسَرِّب، بقصد إحداث صدمة استباقية، قد تجعل من اعتماد هكذا حلّ أكثر قبولاً أو أقل مقاومةً. كما يساعد التسريب مصرف لبنان في عملية تقييم تلقُّف المصارف والمودعين لطرحه. أمَّا نفي هذه التسريبات، وفق مقاربة خاطر، فلا قيمة له بالإستناد إلى التجارب السابقة “في لبنان ليس الدخان ما يدل على وجود النار، بل الرماد. لذلك لا يؤدي نفخ الدخان إلى إطفاء النار بل إلى ذَرّ الرماد!”.
أضاف خاطر “في غياب نصٍّ مانع وصريح، من تمرير هذا الطَّرح، بالاستناد إلى نصّ التعميم الأساسي 86، يَعتَبر هذا التعميم الاحتياطي الالزامي “ايداعًا الزاميًا للأموال” ويضعه بتصرف المركزي في تناقض واضح مع نَصّ الفقرة “د” من المادة 76 من قانون النقد والتسليف الذي يعتبره احتياطيا فعليًّا لا يجوز المساس به. في مطلق الأحوال، وأيًا كان النصّ المعتمد، فإنّ أيّ تخفيض للإحتياطي يجب أن يعيد الأموال للمودعين وليس فقط للمصارف“.
في ظل الضبابيّة التي تحكم الواقع المالي، يتردد في اذهاننا السؤال التالي: هل الإحتياطي الإلزامي المقدّر بحوالي ١٧ مليار دولار لا زال موجودًا في خزائن المركزي أم مجرد رقم وهمي؟
هذه الضبابيَّة تشكّل عائقاً أمام أيّ تحديد دقيق لحجم وتوافر الاحتياطي الإلزامي، يجيب خاطر “وهنا تختلف المقاربات لناحية اعتبار الإحتياطي الإلزامي مرتكزاً في احتساب الإحتياطي الصافي، فيكون قد “استُعمل واستُنزف وصُرف”، أو اعتباره جزءًا من الودائع، مما فجعله مرتبطاً بحجمها المتهاوي، والذي تسعى القيود على السحوبات الى لجمه. من ناحيةٍ أخرى، لا يمكن التأكّد ما إذا كان حجم هذا الاحتياطي قد ارتفع، بما يتناسب مع تحويل قسم كبير من الحسابات إلى لولار منذ بداية الأزمة. بحيث تشير معلومات مصرفيَّة موثوقة الى أنَّ الإحتياطي الإلزامي متوفّر نقداً في حسابات المصارف المراسلة. إلا أنّ مصرف لبنان يتعامل بطريقة مُريبة مع المصارف في ما خصَّ إلتزاماته المتعلّقة بهذا الاحتياطي. فبعد تسديده عائدات التوظيفات الاحتياطية المُلزِمة بالعملة الوطنية، عمد إلى إلغاء هذه العائدات ابتداءً من شهر تموز الماضي. ثمَّ، وفي خطوةٍ لافتة وذات دلالات مقلقة، لم يسلِّم المركزي المصارف سيولتها الاحتياطية المستحقة، بسبب تراجع حجم الودائع، بل استعملها لتسديد إلتزاماتها في الخارج. تدفعنا هذه المعطيات إلى الذهاب أبعد في تحليل خيارات مصرف لبنان وابتكاراته الملتبسة في ما خص هذا الملاذ الدولاريّ المتبقي فنسأل: ماذا لو طبَّق مصرف لبنان على المصارف مندرجات التعميم 151 الذي تطبّقه هي على عملائها؟ ماذا لو أعاد لها اموالها الاحتياطية بالعملة الوطنية على سعر صرف 3900 ليرة لكل لولار؟ إنّ في ذلك إن حصل، استيلاء على ما تبقى من أموال المودعين، تماماً كاستعمالها عنوةً لدعم التهريب والفساد“.
يُفترض بالإحتياطي الإلزامي أن يشكّل ضمانة للمودع، ومسألة استخدامه تتخطّى الإشكالية القانونية والمصرفية إلى اعتبارها مسألةً أخلاقية بامتياز، وفق خاطر “فالاحتياطي، الذي لا يشكِّل إلا بقيةً باقية من الودائع المسلوبة، يكتسب أهميةً معنويةً تفوق قيمته الماديَّة. واستخدامه يشكِّل ضربة قاتلة لمصداقية مصرف لبنان والقطاع المصرفي، وهي مفقودة أصلًا، مما يرتِّب تداعيات كارثية على استعادة الثقة بهذا القطاع وإعادة هيكلته”. وأمام ضيق الخيارات في ظل الأوضاع الإجتماعية الكارثية والأفق السياسي المسدود، يلفت خاطر إلى خللٍ بنيوي وتنظيمي وإداري فادح، في اعتبار المصرف المركزي مسؤولًا عن تأمين تمويل الدعم، كونه مُناطا بالموازنات التي تقترحها الحكومة.
بالخلاصة بدائل أخرى يبحث بها أهل الحلّ والربط، تأتي بدورها في إطار سياسة شراء الوقت بأثمانٍ باهضة، كالبطاقة التموينيّة، وترشيد الدعم. والسؤال المحوري، هل البدائل تأتي في الوقت المناسب أو بعد فوات الأوان؟ وهل أموال المودعين، سواء تلك المصنّفة في إطار الإحتياطي الإلزامي أو خارجه، قدّ تبخّرت؟