تقنين الكهرباء: الانهيار والإفلاس والعتمة.. عمداً

10 يناير 2020آخر تحديث :
لا فائدة من ساعة كهرباء
لا فائدة من ساعة كهرباء
لِمَ الاستغراب؟ نحصد اليوم ما زرعته القوى السياسية لعقود، وغذَّته الهتافات المؤيدة للزعيم وسياساته. والتأييد لم ينطلق من معطيات علمية ونتائج التجارب الناجحة، وإنما من انقياد غرائزي طائفي. فدافَعَ كل جمهور عن المشاريع الخاصة بزعيمه، بوصفها نشاطاً وطنياً يصب في صالح الدولة. وتحوَّل كل زعيم إلى زاهدٍ يعمل لوطنه ومن حسابه الخاص. لكن النتيجة كذّبت الجميع، رغم التعنّت والمكابرة وعدم الاعتراف بالفشل والعجز. وتمثّل مؤسسة كهرباء لبنان، أوضح نموذج عن فشل الطبقة السياسية في تحقيق الصالح العام، ونجاحها في تحقيق مصالحها الخاصة.

زيادة التقنين
أبى وزراء الطاقة المتعاقبون إلاّ أن يَعِدوا اللبنانيين بكهرباء 24/24، فتَرجموا وعودهم بزيادة التقنين، وبظهور امبراطورية المولدات الخاصة التي سدّت فراغ الدولة، لكنها رتّبت على المواطنين أكلافاً اضافية.

استمر التقنين كنتيجة حتمية لاستنزاف مؤسسة كهرباء لبنان عبر سياسات مقصودة. ووصل الأمر إلى حد إعلان وزيرة الطاقة في حكومة تصريف الأعمال، ندى البستاني، أن “كمية الفيول المتوفرة تكفي حتى آخر شهر شباط 2020”. وبهذه الكمية، ستحظى بيروت الإدارية بتغذية “بين 16 إلى 21 ساعة، وباقي المناطق بين 8 إلى 10 ساعات”. أما السبب المباشر لللأزمة الحالية، برأي البستاني، فهي “مشكلة تأخر فتح الاعتمادات المالية، وكذلك العاصفة تسبّبت بتأخير تفريغ البواخر”.

على وقع أزمة التقنين، اعتصم العشرات أمام المبنى الرئيسي لمؤسسة كهرباء لبنان في بيروت، وكذلك أمام بعض مباني المؤسسة في المناطق مثل صيدا والنبطية وطرابلس وعكار، مطالبين بعودة التغذية وبمحاسبة المسؤولين عن الهدر والفساد في المؤسسة. ودعا المعتصمون جميع المواطنين إلى عدم دفع فواتير الكهرباء إلى حين حل الأزمة.

الحجة بالتمويل
سلفة تلو الأخرى حصلت عليها كهرباء لبنان، بغية شراء الفيول لتأمين التغذية الكهربائية. ورغم عدم قانونية السلفات، إلاّ أن هاجس تأمين الكهرباء كان عاملاً مساعداً في غض الطرف عن الجانب القانوني، وهذا ما استغلّته المؤسسة، ومن خلفها المسيطرون على وزارة الطاقة، للإيحاء بأن مشكلة قطاع الكهرباء تنحصر في عدم توفير وزارة المال الاعتمادات لشراء الفيول، إما بشكل مقصود أو نتيجة انتظار الاجراءات الرسمية المطلوبة، وعلى رأسها إقرار السلفات في الموازنات العامة، وهو ما تتطلّع إليه مؤسسة الكهرباء في موازنة العام 2020.

فالمؤسسة أعلنت صراحة أن سبب التقنين هو غياب الاعتمادات. وهي أكدت منذ منتصف شهر كانون الأول 2019، وضعها “حوالى 1500 ميغاوات على الشبكة، علماً أن المؤسسة قادرة تقنياً على وضع طاقة إنتاجية إضافية. لكنها تعتمد حالياً برنامج تغذية بالتيار الكهربائي يتوافق مع المساهمة المحددة لها من قبل الدولة اللبنانية للعام 2019، واستناداً إلى أسعار النفط الحالية الآيلة إلى الصعود، وتلامس حالياً الـ70 دولاراً للبرميل، فيما موازنة المؤسسة وضعت على أساس سعر 65 دولاراً للبرميل، وذلك في ظل تعرفة ثابتة منذ العام 1994 عندما كان سعر برميل النفط لا يتجاوز الـ 20 دولاراً”.

كلام المؤسسة يُظهر مظلوميّتها. ومع ذلك، تسعى حسب وجهة نظرها إلى تسيير المرفق بأكبر قدر من “العدالة”. فالمؤسسة طمأنت إلى أن “جميع المناطق اللبنانية تتغذى بالتيار الكهربائي على قدم المساواة باستثناء تلك التي صدر بشأنها قرارات أو توجيهات من مجلس الوزراء ومن بينها بيروت الإدارية”. وطبعاً، تستحق العاصمة بعضاً من “الدّلال”، خصوصاً في هذه الظروف الاقتصادية والمالية الصعبة!

التقنين مستمر
وضعت المؤسسة الخطوط العريضة للمرحلة المقبلة، معلنة أنه “في حال الإبقاء على المساهمة المحددة في مشروع الموازنة العامة بـ 1500 مليار ليرة لبنانية، فإن المؤسسة ستضطر أيضاً إلى اتخاذ إجراءات احترازية بما يتوافق مع هذه المساهمة ومع أسعار النفط العالمية”.

ومعنى ذلك أن التقنين سيزداد. فالمساهمة لن ترتفع وسط الحال المتردّية للبلاد. كما أن سياسة تسيير المرفق بإبَر مورفين بهيئة سلفات خزينة، يطلق العنان للمزيد من التقنين. إذ لا مورد دائم يمد المؤسسة باحتياجاتها، وتالياً المواطنين بحقوقهم من هذا القطاع.

والمؤسسة إذ تسلط الضوء على مقايضة التقنين بسلفات الخزينة، إنما تعفي نفسها من مسؤولية الهدر، الذي يُتوقع أن يصل إلى 40 مليار دولار خلال العام 2020، وذلك بفعل السياسات الخاطئة التي تُنفَّذ في المؤسسة وفي وزارة الطاقة، والتي أدت إلى تفاقم الهدر الذي كان قد وصل إلى 13 مليار دولار في العام 2010، في حين بلغ 1.2 مليار دولار في العام 1990. أي أنه خلال 20 عاماً (1990-2010) ارتفع العجز 11.8 مليار دولار، وخلال 9 أعوام (2011-2020) سيرتفع العجز قرابة 27 مليار دولار.

سياسات فاشلة
للمفارقة، الأعوام التسعة التي شهدت ارتفاعاً جنونياً لقيمة الهدر، هي الأعوام نفسها التي أعلنت وزارة الطاقة أنها تسير وفق خطة لإصلاح قطاع الكهرباء. والخطة عبارة عن ورقة سياسة إصلاح القطاع، التي وضعها في العام 2010، وزير الطاقة آنذاك، جبران باسيل، والتي استرشد بها خلفاؤه، الذين كانوا حينها برتبة مستشارين لديه.

لا تقع مسؤولية السياسات الفاشلة على عاتق باسيل وفريقه السياسي فقط، وإنما على عاتق طبقة كاملة شرّعت أو تغاضت عن السياسات، سواء لتبييض صورتها لدى باسيل أو لدفعه أكثر نحو الغرق في الفشل. لكن في الحالتين، المتضرر هما المواطن والدولة.

والفشل ليس محصوراً في ورقة سياسة القطاع، التي قد يُبرِّرها أحدهم بأنها محاوَلة للإصلاح، أو وجهة نظر حوله، وإن خابت توقعاتها. لكن ما تبرير تشريع ورقة اصلاح أخرى باسم البستاني، مضافٌ إليها زيادة عدد شركات مقدمي الخدمات التي أثبتت التجربة فشلها؟ التبرير الوحيد المُقنِع هو لحاق المشرّعين بطريق تدمير مؤسسة الكهرباء، بهدف خصخصتها بأبخس الأثمان بعد افلاسها. وهو ما يتوافق مع مشروع تدمير كل مؤسسات الدولة عبر تعزيز الفساد الذي يتلطّى أحياناً بغطاء الاصلاح.

وسرعان ما تظهر الحقيقة بعد عدم التزام المشرّعين أنفسهم، بما تعاهدوا عليه، فيما بينهم، أو تجاه منظمات أو شركات أو دول أجنبية. ولا تخرج توصيات ماكينزي عن هذا السياق، إذ لم يلتزم من دفع مليون و300 ألف دولار، بالخطوات التي وضعتها الشركة بهدف “ايجاد بيئة أعمال جاذبة للاستثمارات الخارجية، وتفعيل قطاعات إنتاجية تنافسية قادرة على تعزيز مؤشرات الأداء الإقتصادي وخلق فرص العمل”.

تسقط أعمدة القطاعات الاقتصادية رويداً، وتتحضّر الدولة للخروج عن سكة الانتظام الاقتصادي والمالي. ووحدهما الفوضى والعتمة بالانتظار.

المقالات والآراء المنشورة في الموقع والتعليقات على صفحات التواصل الاجتماعي بأسماء أصحـابها أو بأسماء مستعـارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لموقع “بيروت نيوز” بل تمثل وجهة نظر كاتبها، و”الموقع” غير مسؤول ولا يتحمل تبعات ما يكتب فيه من مواضيع أو تعليقات ويتحمل الكاتب كافة المسؤوليات التي تنتج عن ذلك.