كتب أنطوان فرح في “الجمهورية”: لا يوجد حاجز فعلي بين سنة وسنة، لكي نتحدث عمّا سيشهده البلد في العام 2021، مقارنة مع العام الذي طوى صفحته الأخيرة قبل 4 أيام. وكأنّ ما حصل في 2020، وقبلها في 2019 و2018 و2017 وقبل ذلك بسنوات، مُنفصل عمّا سيجري في العام الجديد.
في الواقع، هناك استمرارية حتمية لمسار التطورات الاقتصادية والمالية من دون أن يعني ذلك انّ الامور محسومة، في تفاصيلها. هناك ثوابت، وهناك مُتحركات يمكن أن تصنع الفرق. لكن، ليس صحيحاً انّ الاستمرار في الهبوط قَدَرٌ لا بد منه للوصول الى القعر، ومن ثم بدء مرحلة الصعود. عملياً، ومن خلال ما يمكن أن نتعلمه من تاريخ الدول التي واجهت أعاصير إفلاس وتعثّر ووضعاً مالياً معقّداً، وحتى حِصارات، يتبيّن انّ القعر تحدّده سياسة السلطة السياسية وإجراءاتها. على سبيل المثال لا الحصر، القعر الذي وصلت اليه اليونان، رسمته القرارات التي اتخذتها السلطات اليونانية، بالتماهي مع الاجراءات التي قامت بها المجموعة الاوروربية وصندوق النقد الدولي والبنك المركزي الاوروبي.
وبالتالي، لو لم تُتخذ هذه الاجراءات لكان القعر أعمق، ولربما كانت اليونان مستمرة حتى اليوم في الانحدار. وهناك أمثلة أخرى تبيّن انّ دولاً، مثل فنزويلا، مستمرة في الهبوط منذ سنوات طويلة، وهي لم ولن تصل الى القعر قبل أن تقرر السلطات فيها وقف الهبوط. انه قعر افتراضي ترسم حدوده سياسة الدولة المعنية بالأزمة.
في لبنان، وبصرف النظر عن الاجراءات التي قد يتمّ اتخاذها في خلال العام 2021، يمكن ايراد الثوابت التالية:
اولا – سعر صرف الليرة لن يتحسّن، حتى لو تبدّل المشهد بشكل جذري، وأوقفنا مسيرة الانحدار نحو جهنم، لأنّ حجم الاقتصاد، والتداعيات التي حصلت حتى الآن جراء الانهيار الحاصل، لا تسمح بالاعتقاد بأن يكون سعر الليرة أفضل ممّا هو عليه اليوم في السوق السوداء.
ثانيا – الاستثمارات وفرص العمل في القطاع الخاص لن تشهد تغييراً يُذكر، ونسَب البطالة ستبقى مرتفعة.
ثالثا – حجم القطاع المصرفي سيتقلّص بنسبة كبيرة تتماهى مع حجم الاقتصاد الجديد. وسيتم الاستغناء عن الانتشار الخارجي، وستجري عملية اعادة تصميم (reshaping) تناسب معطيات السوق اللبناني الذي صار مختلفاً عن السابق.
رابعا – القدرة الشرائية للمواطن ستتراجع اكثر، حتى لو لم يتراجع سعر صرف الليرة عن معدله الحالي في السوق السوداء، بسبب رفع أو ترشيد الدعم، لأنّ الاستمرار كما كان في 2020 شبه مستحيل.
في موازاة هذه الثوابت التي لا بد من مواجهتها بصرف النظر عن المسار السياسي، والاجراءات التي قد تتخذها المنظومة السياسية بهدف وقف الانهيار، هناك مجموعة متحركات تجعل الفارق شاسعاً بين سيناريو وآخر.
في السيناريو السيئ، لا تغيّر المنظومة السياسية في سلوكها قيد أنملة، وبصرف النظر عن تشكيل حكومة أم لا، سيكون المواطن في مواجهة ضغوطات اضافية، حيث سيستمر ارتفاع سعر صرف الدولار، وقد يصل الى مستويات قياسية حتى نهاية العام لا تقل عن 25 الف ليرة. ذلك انّ الحاجة الى طباعة المزيد من الليرات ستكون أكيدة، كذلك فإنّ موجة التخلّي عن الليرة ومحاولة استبدالها بالدولار ستصبح راسخة أكثر مما هي عليه اليوم. وبالتالي، سيتم تحويل كل ليرة تُسحب من المصارف الى دولار ورقي (banknote).
في المقابل، سيواصل حجم الاقتصاد تراجعه. ورغم انه وصل في 2020 الى رقم قياسي لم تسجله سوى قلة من الدول الفاشلة، حيث هبط من 52 مليار دولار عام 2019 الى حوالى 20 ملياراً في نهاية 2020، إلا انه قد يشهد المزيد من الانكماش، خصوصاً في ظل غياب الثقة وانسداد الأفق، لأنّ هذا الوضع لن يسمح حتى بتحسين الانتاج الصناعي المحلي، ذلك انّ الصناعيين، وهم في أزمة من هذا النوع، مصدر أساسي لتأمين العملات الصعبة، لن يتحمّسوا لتوسيع أعمالهم كثيراً، او لإدخال دولارات طازجة الى البلد. كذلك قد يستمر بعضهم في محاولة الافادة من القدرة على التصدير لإخراج دولارات اضافية الى الخارج، وهذا أمر بديهي لا يمكن ضبطه سوى من خلال البدء في ورشة اعادة ترميم الثقة.
في السيناريو الجيد. يتبدّل المشهد السياسي ولو جزئياً، ويبدأ التعاون مع صندوق النقد ومجموعة الدعم الدولية والبنك الدولي لإرساء خطة للنهوض. في هذه الحالة، ورغم ان الفقر سيستمر في العام 2021، إلا انّ مسيرة الانحدار السريع قد تتوقف أو تتباطأ الى مستويات متقدمة تسمح بتحديد القعر الذي سيتوقف عنده الهبوط.
في الاثناء، يمكن أن يشهد البلد ايجابيات من نوع توحيد سعر صرف الدولار وفق سعر متحرّك يعكس الواقع الاقتصادي الحقيقي، في موازاة خطة إنقاذ يبدأ تنفيذها. ويمكن ان يبدأ ضَخ الدولارات من الخارج في غضون 3 أو 4 أشهر اذا ما حزمت السلطة السياسية أمرها، وغيّرت المسار في اتجاه الانقاذ. كذلك ستشكّل اموال القوى اللبنانية العاملة في الخارج، خصوصاً في الخليج، ورقة رابحة بعدما تبيّن انّ هذه الدولارات تكاد تكون اليوم المصدر الاساسي للدولارات التي تتوفر في السوق السوداء. وقد قدّر البنك الدولي حجم الاموال التي دخلت الى البلد في 2020 بحوالى 6,9 مليارات دولار. وهو رقم جيد قياساً بحجم اقتصاد تدنّى الى 20 مليار دولار.
في العام 2021، ستكون هناك محطات مفصلية في تقرير مصير المسار المالي والاقتصادي الذي ستتخذه التطورات، ورغم انّ الوضع سيكون صعباً وقاسياً في كل الحالات، الا انّ الفرق شاسع بين استمرار الانهيار، أو وقفه عند قعرٍ مُحدّد.