لو لم يكن هناك تلاعب بالأرقام، كما هو سائد في لبنان عادةً، لكانت مراقبة تطوّر ميزان المدفوعات السلبيّ خيرَ دليل على مسار البلد الآخذ في الانحدار والإفلاس. وقبل الغوص في المسار فلنتذكّر ما التعريف الرسميّ لميزان المدفوعات.
ميزان المدفوعات هو سجلّ محاسبيّ، وماليّ تُدوّن فيه كافة الإجراءات الاقتصاديّة المتعلّقة بالدول، ولكلّ دولة من دول العالم ميزان مدفوعات خاصٍّ بها، تتعامل به مع الدول الأُخرى، لتسجيل العمليّات الماليّة التي تتمّ بينها، ويتكوّن من جانبين، الأوّل يسمّى (المَدين): وتُسجّل فيه كافة الإجراءات الماليّة التي يتمّ دفعها، والثاني يسمى (الدائن): وتُسجّل فيه كافة الإجراءات الماليّة التي يتمّ تحصيلها، ويعتمد ميزان المدفوعات على تسجيل المبالغ النقديّة التي تُدفع كافّةً، سواء لشراء خدمة أم سلعة ما، وأيضًا يحتوي على التفاصيل المتعلّقة برأس المال، والمصروفات الأُخرى.
عادةً ما يتمّ إعداد نظام المدفوعات لسنةٍ ماليّة واحدة، تبدأ في بداية العام، في الأول من شهر كانون الثاني (يناير)، وتنتهي بنهايته، أي في الحادي والثلاثين من شهر كانون الأوّل (ديسمبر). إذًا، في خلاصة التعريف، ميزان المدفوعات هو صافي الحركات الماليّة لبلد أو نظام ماليّ مع الخارج لفترة محدَّدة من الزمن. وفي لبنان بما أنّ نظامه الماليّ مُدولَر (يعتمد على الدولار الأميركيّ) فميزان مدفوعاته يُقاس بالدولار الأميركيّ أيضًا.
كانت سنة 2011 عام التحوّل السلبيّ لميزان المدفوعات، إذ بدء يسجّل عجوزات متتالية. ولكن للأسف، كالمعتاد لم تتحرّك السلطة ولم تُبادر للقيام بأيّ اجراء أو خطّة إنقاذيّة لتفادي الانهيار الاتي بالرغم من المؤشرات الخطيرة التي بدأت تظهر في ظلّ اقتصاد لبنانيٍّ مدولر ومتواضع يعتمد كثيرًا على التحويلات الخارجيّة وتثبيت سعر الصرف باهظ الثمن.
لذلك، وربما لتلميع صورة الأداء الاقتصاديّ للسلطة تُجاه المواطنين والرأي العامّ، عَمَد مصرف لبنان الى تعديل أرقام المؤشر وإضافة أرقام متعلّقة بسندات اليوروبوند الّتي يملكها، علمًا أنّ أرقام اليوروبوند لا تمثل أيّ سيولة حقيقيّة بالعملة الأجنبيّة. والمضحك المُبكي… أنّه بالرغم من كلّ ذلك بقي المؤشِّر يسجّل عجوزات متتالية.
بعد عدّة سنوات من تسجيل عجوزات متتالية للمؤشِّر من دون أيّ تحرِّك للسلطة، عمد مصرف لبنان في سنة 2016 الى إجراء هندسات ماليّة مكّنته من تحويل المؤشر من سلبيّ إلى إيجابيّ وتسجيل فائض بميزان المدفوعات لسنة واحدة فقط. تُوِّجت نتيجة هذه الهندسات عملية “شفط” سيولة المصارف التجاريّة في الخارج وإيداعها في مصرف لبنان من خلال إغرائها بفوائد عالية تخوِّلها جني أرباح هائلة.
كان هذا الثمن الّذي دفعه مصرف لبنان للبنوك التجاريّة مُكلِفًا جدًّا، خصوصًا أنّه كان مموّلًا من محفظة المودِع اللبنانيّ. كما أظهرت معظم البنوك التجاريّة خفّة في التعاطي بأموال المودِع والمخاطرة بها لأجل جني أرباح كبيرة فقط. وعلى الرغم من إدارة واستثمار مصرف لبنان والمصارف التجاريّة لأموال المودعين من خلال الهندسات الماليّة تلك، عاد ميزان المدفوعات ليسجّل عجوزاتٍ كبيرة في السنوات المتتالية نتيجة ممارساتٍ غير سوية تمثلت باستعمال أرباح الهندسات الماليّة لشراء الدولارات وتحويلها إلى الخارج.
الغريب والخطير في ذلك كلّه، أنّه في سنة 2020، إذا دقّقنا في الميزان التجاريّ الذي يمثّل الفارق بين الصادرات والواردات، نرى أنّ عجزه قد انخفض إلى النصف، وذلك نتيجة ارتفاع أسعار السلع المستوردة، وبطبيعة الحال انخفاض الاستيراد الّذي يعود إلى تدهور القوّة الشرائيّة لدى المواطن تزامنًا مع انهيار قيمة عملته الوطنيّة.
لكنّ الأغرب والأخطر تضاعف عجز مؤشر ميزان المدفوعات خلال الفترة نفسها، ممّا يعني أنّ هناك كميّات كبيرة من الدولارات لا تزال تخرج من البلد بالرغم من وضع المصارف يدها على أموال المودعين بالعملة الأجنبيّة وعدم السماح لهم باستعمال أيٍّ منها. ما العبرة من ذلك؟ للأسف هذا يعني أنّ من له نفوذ في لبنان، ما يزال يستفيد من الإستنسابيّة بتحويل أمواله إلى الخارج على حساب غالبية المواطنين الّذين يضحّون بنمط عيشهم ومدَّخراتهم وقوَّتهم الشرائيّة…
بقلم البروفيسورة ندى الملّاح البستانيّ