ما نشهده ليس إلّا إنهيارا اقتصاديّا وماليّا متعمّدا لأهداف مجهولة. وما يزيد الطين بلّة إنفجار مرفأ بيروت، وغزو وباء كورونا لبنانَ وتأثيره الفعّال في الإنهيار، كما لو أنّه أتى ليدعم السلطة في مسعاها! في المحصّلة، نحن نهوي أعمق وأعمق في أتّون الوادي المظلم، خصوصًا وأنّ تقديرات الناتج القوميّ الحقيقيّ لسنة ٢٠٢٠ شهدت انخفاضًا بلغ -20% مقارنة بسنة 2019 الّذي شهد انخفاضًا بواقع -7%.
بالإضافة إلى ذلك، تسبب انهيار العملة الوطنيّة بتضخّم فاق الـ 150%. والملحوظ أنّ تأثيراتها شبيهة بتأثيرات نظام الضريبة المتناقصة “Regressive taxes”، الّتي تكون بالإجمال جائرة على ذوي الدخل المحدود بالليرة اللبنانيّة، الآخذين في ازدياد، ومتسامحة مع أغنياء المجتمع، ممّا يزيد الهوّة بين الشرائح المجتمعيّة، ويلغي الطبقة المتوسّطة، في إعطائه كافّة التسهيلات لأصحاب رؤوس الأموال على حساب الشريحة الأكبر في المجتمع.
ولّدت هذه العوامل عدم الثقة، فأُجبَر المجتمع الدوليّ واللبنانيّون المغتربون على فرملة عمليّاتهم الماليّة، والحدّ من تحويلاتهم بالعملة الأجنبية إلى لبنان، ما أوصل إلى شحّ كبيرٍ في العملة الأجنبيّة، وأجبر مصرف لبنان على اللجوء إلى احتياطاته من العملة الأجنبيّة، للتعويض ما يسمّى بالدعم وتمويله.
بموازاة ذلك، لا يكفّ مصرف لبنان والمصارف التجاريّة التأكيد على محافظتهم على ودائع المودعين، وإن كان الأمر على الأرض فعليًّا مختلف، إذ أنّ تلك المصارف تمارس، وبشكلٍ يوميّ، ما يُسمّى بالهيركات Haircut عبر صرف بعض الودائع بالدولار الأميركيّ بالليرة اللبنانيّة بسعر أقلّ بحوالى 50% من سعر السوق الفعليّ (السوق السوداء).
إذا استمرّ البلد في الجنوح نحو هذا “المهوار”، سيتّسع نطاق الفقر حتمًا متخطّيًا نصف عدد المواطنين. نعم وألف نعم، اللبنانيّون ولبنانهم على شفير الزوال. ومتى يزول بلد أو نظام؟ عندما تنحدر مقدِراته البشريّة والاقتصاديّة إلى القاع وتلامس الحضيض، حينها يزول أيّ بلد.
مع هذه البانوراما المُحزنة للوضع الراهن في لبنان، نشهد هجرة أدمغة الشبيبة ، واليد العاملة الكفوءة تتلاشى في لبنان مما يؤدّي إلى تسارع انهيار اقتصاد البلد من خلال تدهور الناتج المحليّ للفرد الواحد والتضخّم المُفرِطHyperinflation ، ممّا يعني المزيد من الفقر والبطالة، وشبه انعدام القوّة الشرائيّة.
علاوةً على ذلك، إنّ ما يُسرِّع التحطّم الإقتصاديّ والماليّ في البلد، حقيقة عدم تمكّنه من تمويل نفسه بجرعات صغيرة بالعملات الأجنبيّة الّتي تشابه كثيرًا في أيّامنا جرعات الأوكسيجين الّتي تبثّ في رئتي المريض. فهذه الجرعات مستحيلة في ظلّ توقّف التحويلات الخارجيّة، وعدم تمكّن “أطلال الدولة” الأقتراض بالعملة الأجنبيّة، لأنّها، كعادتها، لا تلتزم الوفاء بالتزاماتها ودفع ما اقترضته سابقًا، ممّا أدّى أخيرًا إلى إخراج لبنان من السوق العالميّة الماليّة.
كلّ ما عرضناه أعلاه، ما هو إلّا عوامل تقود إلى زوال لبنان الّذي عرفناه، إذا لم نتحرّك سريعًا بطريقة أو بأُخرى باتجاه معاكس للهاوية. لن يساعدنا أحدٌ في مسعانا هذا، فالخارج مؤتمَن على مصالحه، ويهتمّ بأهدافه ومنفعته الخاصّة فقط. فالشعب اللبنانيّ هو الوحيد الّذي يستطيع التغيير إذا أراد ذلك، من دون أن ينتظر استجابة القدر. واللجوء إلى التغيير لا يعني أبدًا اللجوء إلى العنف والهمجيّة، إذ أنّ التغيير يحتاج إلى الاتّحاد وفي الاتّحاد قوّة لا ضعف. إلى الآن، لا مؤشّرات حقيقيّة إلى توحّد الشعب اللبنانيّ لإنقاذ نفسه بنفسه من وادي جهنّم الّذي يحضّره شيطان شائع.
بقلم البروفيسورة ندى الملّاح البستانيّ