والوصول إلى هذه المرحلة، نتاج طبيعي للتأخير المقصود في تأمين الديزل، وترك الأمور إلى اللحظات الأخيرة، كي يتسنّى للفريق المسيطر على الوزارة والمديرية العامة للنفط، وضع البلاد أمام أمر واقع: قبول الصفقات، ومنها الديزل غير المطابق للمواصفات.
مواصفات الديزل
وصلت شحنة الديزل المطلوبة لتشغيل معمل الزهراني، لكن حمولتها لم تفرغ لتباين الآراء حول المواصفات.
فالعيّنة المأخوذة من الشحنة أثارت تساؤلات إدارة معمل الزهراني التي أرسلت كتاباً إلى مؤسسة كهرباء لبنان.
والأخيرة طلبت رأي شركة سيمنس الألمانية المصنّعة لمولّدات إنتاج الكهرباء في معملي الزهراني ودير عمار، فأوصت بعدم جواز استعمال الشحنة المنتظرة قبالة الشاطىء، والمقدّرة بنحو 30 ألف طن، ويدفع لبنان نحو 25 ألف دولار عن كل يوم تأخير في تفريغ الحمولة.
وأصرّت المؤسسة على الالتزام برأي سيمنس، فيما رفضت المديرية العامة للنفط الالتزام، وأصرّت على صحّة الشحنة، وأرسلت عيّنات منها إلى “مختبرات ثلاثة عالمية، بينها مختبر في الإمارات العربية.
وأوصى المختبر بجواز استعمال الشحنة”، وفق ما تؤكد المديرة العامة للنفط، أورور فغالي، مشيرة في حديثها لـ”المدن”، إلى أن “المختبر تواصل مع شركة سيمنس التي أصرّت على عدم استعمال الشحنة. والمسألة عالقة عند سيمنس”. واستغربت فغالي إصرار الشركة.
في المقابل، تكشف مصادر في مؤسسة كهرباء لبنان في حديث إلى “المدن”، أن “المختبر استند على امكان تعديل المواصفات القياسية للشحنة، ليمكنها استخدامها، فيما تصر سيمنس على الالتزام بمواصفاتها القياسية الموضوعة لتناسب المولّدات، وأي خفض أو تعديل للمقاييس، يؤثر على المولّدات”.
وترى المصادر أن “إصرار الشركة ينبع من عدم رغبتها في تحمّل مسؤولية أي ضرر للمولّدات. والمسؤولية المقصودة هي مسؤولية سمعة مولّداتها عالمياً، وليست مسؤولية مباشرة عن المولّدات في الزهراني”.
مؤسسة الكهرباء خائفة
“المديرية هي المسؤولة عن فحص الديزل وارساله إلى مؤسسة كهرباء لبنان”، تقول فغالي.
وطيلة سنوات، التزمت المؤسسة بما تضعه المديرية من مواصفات، من دون أن تعترض عليها، مع أن فضائح عدم مطابقة الفيول، كانت تتوالى تباعاً.
والصمت المطبق داخل الثالوث المقدّس – وزارة الطاقة، مؤسسة الكهرباء، مديرية النفط، يعود لسيطرة فريق سياسي واحد عليها.
انعطافة مؤسسة الكهرباء لناحية التدقيق في مواصفات الديزل، لا تعود لرغبة في إصلاح مسارها، وإنما “بفعل الخوف من تضرر المولّدات، في ظل عدم وجود شركة لاجراء الصيانة.
والمرحلة الحرجة التي تمر بها البلاد، لا تحتمل فضائح جديدة في قطاع الكهرباء. وعليه، رمت المؤسسة بالمسؤولية على مديرية النفط، ومن خلفها وزارة الطاقة”.
إصرار سيمنس على التمسك برأيها لا يعود لرغبة منها في عرقلة انتاج الكهرباء في لبنان، بل في احترام مواصفات صناعاتها وطريقة عملها.
“وكان بإمكان مؤسسة كهرباء لبنان عدم طلب رأي سيمنس، واستعمال الشحنة، لكن بمجرد إعطاء سيمنس رأياً في الملف، تصبح المؤسسة محرجة إذا لم تأخذ برأي الشركة الألمانية، وتصبح عرضة للمسؤولية ورأي الشركة حجّة عليها”.
سيمنس والسفينة العالقة
ويجري التواصل حالياً مع سيمنس حول إمكان تخفيض مواصفاتها القياسية، ليصبح بالامكان استعمال الديزل من دون مسؤولية أخلاقية على الأقل، فيما لو حصل أي عطل للمولّدات.
“ولا يبدو أن الشركة ستغيّر رأيها لأنها لا تعطِ رأياً خاصاً لدولة من دون أخرى، فمعاييرها موضوعة بحسب صناعاتها ومعدّاتها”.
وإلى حين إيجاد حلّ ما، تصرّ مديرية النفط على استخدام الديزل الموجود في الناقلة البحرية قبالة معمل الزهراني، وتلك العالقة في قناة السويس.
وهذا التباين، يضع المديرية ومؤسسة الكهرباء في مواجهة غير معلَنة، وإنما مفروضة بحكم الاختلاف حول نوعية الديزل.
ولا يمكن للنفوذ السياسي أن يحسم الجدل في هذه المرحلة، لأن رأي سيمنس هو الأقوى علمياً، إلاّ إذا أذعَنَت المؤسسة واستعملت الديزل وغامرت بامكان حدوث أعطال، فيصبح لزاماً عليها إصلاحها وتكبد الكلفة بالدولار غير المتوفّر.
وهذا بحث يطول.
يبرز حلُّ مؤقّت يتمثّل بالحصول على الديزل من منشآت النفط في الزهراني، ريثما تُحل أزمة المواصفات.
وديزل الزهراني مقبول لتشغيل المولّدات.
لكن هذا الديزل “هو ملك للقوى الأمنية وليس للمنشآت.
ولا قدرة للمنشآت على التصرف به إلا بقرار يُتَّفَق عليه بين وزارة الطاقة والمديرية العامة لقوى الأمن الداخلي، كما حصل في مسألة البنزين، حين جرى اتفاق بين قيادة الجيش والوزارة، حُلَّت بموجبه أزمة البنزين في الجنوب”.
وأكثر ما يثير القلق، هو انطفاء معمل دير عمار في حال طالت مدّة النقاش حول مواصفات شحنتيّ الديزل.
فمعمليّ الزهراني ودير عمار يُنتجان أغلبية الحاجة للكهرباء، وانطفائهما يعني الغرق في عتمة شاملة.