من أوائل المفاهيم التي تتعلَّمها في فصل الاقتصاد الدراسي، أنَّه ما من وجبة غداء مجانية. فإذا كنت تريد الحصول على المزيد من شيء ما، عليك أن تحصل على ما هو أقل من شيء آخر. بنادق أكثر مثلاً، تعني في المقابل زبدة أقل. وهذه المعادلة تستند إلى فكرة أنَّ الاقتصاد يعمل عادةً بالقرب من “حدود إمكانية الإنتاج”، التي لا يمكنه تجاوزها.
غير أنَّ هذه الفكرة، تعرّّضت للطعن من قِبل “مايك كونزال”، و”جي دبليو مايسون” من معهد “روزفلت إنستيتيويت” الليبرالي، وذلك في مقال نشراه في صحيفة “نيويورك تايمز” مؤخراً، فقد استخدما الحرب العالمية الثانية كمثال على ذلك. وكتبا: “ما نعلمه هو أنَّ الأمريكيين اضطروا إلى شدِّ أحزمتهم في الحرب العالمية الثانية لتوفير الموارد لصالح الحرب. لكن في الواقع، وعلى المستوى الإجمالي، لم يكن هناك انخفاض في استهلاك الأسرة خلال سنوات الحرب”.
إدارة الازدهار
الدرس الذي استخلصه الباحثان هو أنَّ الولايات المتحدة ليست مضطرة لأن تقبل بـ”المقايضات غير السارة”، لأنَّ الاقتصاد الأمريكي أبعد ما يكون عن حدود إمكانية الإنتاج “الأسطورية” مما يعتقده الكثيرون. وهما يجادلان في أنَّه لا يجب التسرُّع في الضغط على المكابح عندما “يزأر” الاقتصاد ويبدأ الازدهار. ويقولان: “لتحقيق الازدهار خلال العقد الثالث من هذا القرن، يجب أن نستعد لإدارة الازدهار، وليس محاربته”.لكن مهلاً. هل يمكن أن تكون قصة هذين الكاتبين عن الحرب العالمية الثانية صحيحة؟ إذ كان الأمر كذلك، ماذا عن توقُّف إنتاج السيارات خلال سنوات الحرب؟ وماذا عن تحديد حصص من اللحوم والبنزين والسكر وما إلى ذلك؟ وماذا عن “حدائق النصر الخلفية” عندما كان الأمريكيون يزرعون حدائقهم من أجل توفير الطعام للجنود؟لقد قرَّرت شخصياً أن أعود إلى البيانات للوقوف على حقيقة الأمر. من المؤكَّد أنَّ الرسم البياني التالي، يوضِّح أنَّ إنفاق الفرد الاستهلاكي ظلَّ يرتفع في كل عام (باستثناء عام 1942) خلال سنوات الحرب. ما هو صحيح، هو أنَّه كانت هناك زيادة هائلة في الاستهلاك والاستثمار الحكومي. وتمَّ رفض الاستثمار التجاري لإفساح المجال لذلك، لكنَّ الإنفاق الاستهلاكي استمر في الاتجاه الصعودي -ثم انفجر بالطبع بعد انتهاء الحرب. يوضِّح الرسم البياني التالي كيف تغيَّرت المكوِّنات المختلفة للناتج المحلي الإجمالي من سنة الكساد عام 1938، عندما كان الاقتصاد يعمل بشكل جيد ضمن حدود إمكانية الإنتاج. من المؤكَّد أنَّ هناك حقيقة في الحكمة التقليدية القائلة بأنَّ الناس شدُّوا الأحزمة خلال فترة الحرب. في مقال نُشر عام 2019 على موقع “فوكس إي يو.أورغ” (VoxEU.org)، وهو موقع إلكتروني تابع لمركز أبحاث السياسة الاقتصادية، كتب برايس فيشباك، أستاذ الاقتصاد في جامعة أريزونا يقول: “الإنفاق العسكري في إطار اقتصاد شبه موجه، أدى إلى مزاحمة الاستهلاك والاستثمار في القطاع الخاص، وأجبر الناس على الالتحاق بالجيش. وفي الخلاصة، قدَّم الأمريكيون تضحيات كبيرة لكسب الحرب، لكنَّ حلفاءهم ضحُّوا أكثر من ذلك”.ظروف صعبةيقول فيشباك إنَّ البيانات الرسمية “لا تأخذ في الحسبان الانخفاض في جودة السلع، والتكاليف الإضافية للحصول على السلع المقننة، والغياب التام للسلع الأخرى. وبمجرد تعديل أرقام الاستهلاك للوصول إلى تقديرات أفضل للأسعار الحقيقية، يتبيَّن أنَّ الكمية المستهلكة من قبل الفرد خلال الحرب، كانت أقل مما كانت عليه في عام 1940، عندما كان الاقتصاد ما يزال في طور الخروج من تبعات الكساد العظيم”.وبحسب ما كتب فيشباك؛ فإنَّ أولئك الذين كانوا يعملون في الجبهة الداخلية، عملوا في ظروف أصعب ولساعات أطول من الأيام العادية، “وأصبحت نوبات العمل الليلية أكثر شيوعاً، كما ارتفعت معدلات الإصابة في مكان العمل”. ومثل هذه التأثيرات،لاتظهر في بيانات الاستهلاك.مع ذلك، لدى كونزال ومايسون، وجهة نظر خاصة، مفادها أنَّه يمكن للأمريكيين رفع مستوى أدائهم عندما يحتاجون إلى ذلك. فالتوظيف في الولايات المتحدة في مايو الماضي كان ما يزال أقل بمقدار 8 ملايين مما كان عليه في فبراير 2020. وهذا دليل واضح على أنَّ الاقتصاد الأمريكي مازال يعمل بأقل من الإمكانات. وبالتالي؛ فإنَّه من الخطأ أن يقترن تراجع النمو اليوم مع ارتفاع في أسعار الفائدة.