مع كلّ” إشراقة دولار” تفقد رواتب اللبنانيين المزيد من قيمتها. الطبقة الوسطى اختفت أو تكاد، والموظّفون بغالبيتهم العظمى في القطاعين العام والخاص باتوا من الطبقة الفقيرة. في ظلّ هذا الواقع، برز طرح زيادة الحدّ الأدنى للأجور إلى ثلاثة ملايين ليرة. فهل يشكّل تصحيح الرواتب حلًّا معقولًا يجنّب البلد انفجارًا اجتماعيّا وشيكًا؟ أو على العكس من ذلك، يقود إلى مزيدٍ من التضخم والإنهيار النقدي؟
لبنان الأدنى عالميًا في معدّل الحدّ الأدنى للرواتبيبلغ الحد الأدنى للأجور 675 ألف ليرة، أي ما كان يوازي 450$ قبل الأزمة، أصبح يساوي اليوم 42 $ على سعر 16 ألف ليرة للدولار الواحد، وفق ما يلفت إليه الباحث في الدولية للمعلومات محمد شمس الدين في حديث لـ “لبنان 24″، بالتالي تآكلت الرواتب وفقدت 95% من قيمتها، وأصبح الحدّ الأدنى للأجور في لبنان بين الأدنى عالميًّا، بمستوى غامبيا وأثيوبيا واليمن، وتتقدّم على لبنان كل من سريلانكا ،أفغانستان ،بنغلادش وغيرها من الدول الفقيرة.
زيادة الرواتب يقابله انهيار في سعر الصرفتصحيح الرواتب مطلبٌ محقّ، يقول شمس الدين “خصوصًا أنّ رواتب 70% من اللبنانيين، تتراوح ما بين مليون ومليونين ونصف مليون ليرة. هذه الرواتب تآكلت بشكل كبير، ولا يكفي ضعفا الحد الأدنى للأجور لتأمين متطلبات العيش للأسرة اللبنانية. لكن من سيدفع كلفة التصحيح هذه؟ إذ تبلغ رواتب العاملين والمتقاعدين 12 ألف مليار ليرة سنويًا، والدولة عاجزة عن تأمين أيّ زيادة، والخيار المتاح أمامها لرفع الرواتب يكمن بطبع المزيد من الليرة، وهو ما ينتج عنه تضخم وانهيار في سعر الصرف أكثر فأكثر، فيما القطاع الخاص بدوره إمّا يصرّف العمال أو يدفع نصف راتب، وهو أيضّا عاجز عن زيادة الرواتب”.
الموظف يعمل بـ 3$ يوميًاأي تصحيح للرواتب، يضيف شمس الدين، يجب أن يأخذ بالإعتبار معيارين “الأول سعر صرف الدولار، الأمر الذي يتطلّب ضرب الرواتب بعشرة أضعاف، ليكون الحدّ الأدنى 6,750,000 ألف ليرة، وهو أمر مستحيل. المعيار الثاني هو نسبة التضخم المسجّلة، والتي تقدّر بـ 160 %، رغم تحفظاتنا عليها، بما يتطلب أن يكون الحدّ الأدنى 1,600,000 ألف ليرة. بالتالي هناك استحالة لتصحيح الأجور، بالمقابل إبقاء الأجور على ما هي عليه في ظلّ ارتفاع الأسعار هو أمر مجحف، فكل من العسكري والمدرّس والإداري، لم يعد يملك حافزًا للذهاب إلى عمله بينما يتقاضى 3 $ يوميًّا. إبقاء هذا الوضع سيؤدي إلى تزايد حالة الترهّل والإنحلال المجتمعي والمؤسساتي وارتفاع معدّل الجريمة”.
من هنا الحل بنظر شمس الدين، لا يكون بالبطاقة التمويلية أو بدعم السلع، بل بالعمل على خفض سعر صرف الدولار، وتوفير بدائل للناس وتوفير الخدمات “كأن تعمل الدولة على تنفيذ خطةً للنقل العام لقاء ارتفاع سعر البنزين، وتأمين الكهرباء بما يخفّف من فاتورة المولدات، وتحسين المدرسة الرسمية للتخفيف من أعباء التعليم، وتعزيز الإستشفاء الحكومي لخفض كلفة الإستشفاء، فالدولة قادرة بغضون سنة أو سنتين على تحسين مجمل الخدمات، التي تكبّد المواطن أعباء كبيرة من دخله، ومن شأن ذلك أن يعيد القدرة الشرائية للرواتب”.
ماذا عن مقاربة الإقتصاديين لمعضلة تآكل الرواتب وطرح تصحيحها؟رفع الرواتب انتحارردًّا على سؤالنا، يعيدنا الخبير الإقتصادي انطوان سعادة إلى التداعيات الكارثية لسلسلة الرتب والرواتب التي أقرت عام 2017 عشية الإنتخابات، ومن دون ايرادات فعليّة. بنتيجتها ارتفعت أسعار السلع بشكل كبير، وما أُعطي للموظف بيدٍ أخذ منه باليد الثانية. بنظره فان تصحيح الرواتب اليوم بمعزل عن استقرار نقدي يبدأ بتخفيض سعر صرف الدولار قبل الرواتب، هو بمثابة انتحار، وتصحيح الرواتب لا يجب أن يكون بمعزل عن برنامج اقتصادي متكامل ورؤية مستقبلية.
يلفت سعادة إلى أنّ زيادة الرواتب في الدول المتقدّمة ذات الإقتصاد القوي لا تتعدى أكثر من 2.5%، وتحصل على مراحل، لأنّ الزيادة الكبيرة تُحدث صدمة في السوق وتضخّمًا، حتّى من دون طبع عملة، وتؤدي إلى رفع أسعار كافة السلع. بالمقابل القطاع الخاص غير قادر على مواكبة رفع الحد الإدنى إلى مليون ونصف لكل موظف، على سبيل المثال، رفع رواتب المدرّسين بمقدار مليون ونصف لكلّ مدرس، سيقابله زيادة كبيرة في أقساط المدرسة تصل إلى 3 ملايين ليرة للتلميذ الواحد.
طروحات شعبوية قبل الإنتخاباتيضيف سعادة “تصحيح الأجور بالطريقة المطروحة يندرج في سياق الطروحات الشعبوية غير المدروسة، تمامًا كالبطاقة التمويلية ورفع سعر المازوت تحديدًا، وما سينتج عنه من ارتفاع في أسعار السلع والخدمات، خصوصًا فاتورة المولّدات التي ستبلغ 700 ألف لكل 5 أومبير، ومع الأسف الناس المتعطّشة تتحمّس لهذه الطروحات، مما يخلق ضغطًا شعبيًّا على السياسيين، وهكذا تدار الأمور بطريقة عشوائية”.
لا يتعلّم مسؤولو البلد، في سلطاته الثلاث، من خطاياهم، وما أكثرها. استنزفوا احتياط مصرف لبنان في سياسة الدعم العشوائية أو الخبيثة، وهم مدركون أنّها تذهب مباشرة للتجار ومافيات التهريب. وبعدما وصلوا إلى الإحتياطي الإلزامي اتفقوا، باستثناء كتل نيابية قليلة، على تشريع المسّ بما تبقى من أموال المودعين لتمويل البطاقة التمويلية، لتكون لزومًا يلزم لموسم الإنتخابات، واليوم يتمّ التداول برفع الحد الأدنى للأجور، فيما الحل بمكان أوحد، مدخله تأليف حكومة موثوقة عربيًّا ودوليًّا، وما عدا ذلك كذب وخداع، لا بل إجرام بحق شعب بكامله.